[تفسير قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)]
قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩].
قوله: (الحجة البالغة) أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، ومنه قولك: أيمان بالغة، أي: أيمان مؤكدة، أو البالغة هي: التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه، فتكون من باب (عيشة راضية)، أي: مرضية.
وقوله: (فلو شاء لهداكم أجمعين)، ولكنه لم يشأ ذلك، ولم يشأ أن يهديكم، وإنما هدى غيركم، فشاء هداية بعض؛ فصرف اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وشاء ضلالة آخرين، فصرف قلوبهم إلى خلاف ذلك، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، فوقع ذلك على الوجه الذي شاء، وهذه الآية في مشركي العرب، حيث قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة، وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء وأضافوا ذلك إلى الله، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول (لو شاء الله ما أشركنا)، وقصدهم الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال، فهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يشأ الترك، وشاء الفعل، ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق؛ لأنه خالق، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه، فهو حق.
وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جداً.
وقضية الاحتجاج بالقدر لها تفصيل واسع في بحثنا (القضاء والقدر)، والقاسمي، وقد عقد فصلاً كبيراً جداً في بيان هذا الأمر، فمن شاء فليراجعه في تفسير القاسمي، أو يراجع كتاب (القضاء والقدر) للدكتور عمر الأشقر.
ونقول هنا باختصار شديد: إن القدر لا يصلح حجة، فهذا الكلام الذي قالوه صحيح، لكن ما قالوه من أجل الإقرار بالقدر، وإنما قالوه من أجل الاحتجاج بالقدر، فالقدر نحن نؤمن به، لكن لا نحتج به، فيجب عليك أن تؤمن بالقدر، وأن كل شيء بمشيئة الله، وكل شيء يقع في الكون بإرادة الله عز وجل، لكن لا يجوز لك أن تحتج بالقدر على المعاصي، وإلا فلو كان القدر حجة لكان حجة لكل أحد، فمثلاً: الشخص الذي يسرق مالك ويقول لك: أنا سرقت بقضاء الله وقدره هو صادق في إثبات القدر، فكل شيء يجري بمشيئة الله، لكنه ضال في الاحتجاج بالقدر على مخالفة الشرع؛ لأن الله حرم عليه السرقة ونهاه عنها، فلو كان القدر يصلح حجة له فيما فعل فهو حجة لك أنت أيضاً إذا ضربته، فاضربه وقل: وأنا أضربك -أيضاً- بقضاء الله وقدره.
ولذلك روي عن عمر أنه لما أراد أن يقطع يد سارق، قال له: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: (وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره).
فإذاً: القدر لو كان حجة لأحد لكان حجة لكل الناس، فغالب الناس الذين يحتجون بالقدر يحتجون بالقدر في صفهم فقط.
فهذه الآية تكرر مجيئها في التنزيل الكريم في عدة سور، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها، فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر، ومعلوم أن من عقيدة الفرقة الناجية: الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد، وخالف في ذلك عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، لأنهم يقولون بخالقين، فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو سبحانه لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد.
فعندهم أن أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى، ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة تبرأ منهم الصحابة، وأصل بدعتهم -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه.