يقول عز وجل:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:١٦] هذا إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: أنتم لا تفعلون ذلك، يعني: مع أن من زكى نفسه وطهرها وذكر ربه فصلى هو الذي يفلح، لكن أنتم لا تزكون أنفسكم، ولا تذكرون اسم ربكم وتصلون، بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها! والخطاب إما للكفرة فيكون المراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}[يونس:٧]، أو الخطاب للكل للمؤمن والكافر، فيكون المراد بإيثار الحياة الدنيا ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الإنسان غالباً من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ.
إذاً قوله:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} خطاب لكل البشر، وذلك لتعلقهم بالحياة الدنيا.
وقوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:١٤ - ١٥] وأنتم لا تفعلون ذلك {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:١٦]، فهنا تلاحظون أن الكلام الأول في سياق الغيبة ثم التفت إلى الخطاب:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:١٦]، وهذا الالتفات لتشديد التوبيخ على الكافر، فوبخ بأنه لا يفعل لا الزكاة ولا التزكية ولا الصلاة، بل يؤثر الحياة الدنيا.
أما على القول الثاني: فالالتفات في حق الكفرة لتشديد العتاب، وفي حق المسلمين على أن الكفار معروف عنهم أنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الإطلاق، فلا يليق بالمسلمين أن يتشبهوا بهم في ذلك، فهم يستحقون أيضاً العتاب؛ ولهذا جاء الالتفات.