إنّ إضافة الشح إلى النفس كما في قوله تعالى أيضاً:{وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}[النساء:١٢٨]، وفي قوله:((شُحَّ نَفْسِهِ)) إشارة إلى أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها؛ لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها، ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله سبحانه وتعالى.
يقول ابن جرير: الشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل من المال.
وعن ابن زيد قال: ومن وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئاً ولم يقربه، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئاً فهو من المفلحين.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح؛ فإنه أهلك من قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) أي: أن صفة الشح تتنافى مع صفة الإيمان وتضادها.
يقول القرطبي في قوله تعالى:((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)): لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها، ((وَالإِيمَانَ)) نصب بفعل غير تبوأ، أي: استوطنوا الدار، وهي دار الهجرة، (والإيمان) أي: وأخلصوا الإيمان، أو ولزموا الإيمان، يقول: لأن التبوء إنما يكون في الأماكن، لكن الإيمان ليس بمكان، ((مِنْ قَبْلِهِمْ))، والمعنى: والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه؛ لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ، وهذا كقوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}[يونس:٧١] أي: فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم، وهذا كله من باب قولهم في الشاهد المشهور في الشواهد العربية: علفتها تبناً وماءً بارداً، أي: علفتها تبناً، وسقيتها ماءً بارداً، فهذا من أساليب اللغة العربية، ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ، ومواضع الإيمان، أو لزموا الدار، ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما.
ويجوز أن يكون (تبوأ الإيمان) على طريق المثل كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم، والتبوّء: التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد أنهم آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إليهم.