للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر)]

قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:٢٩].

قوله: ((فَذَكِّرْ)) أي: من أرسلت إليهم وعظهم.

وقوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ)) يعني: تتكهن فيما تدعو إليه، والتكهن هو: أن يخبر الإنسان بما في غد من غير وحي.

وقوله: ((وَلا مَجْنُونٍ)) يعني: ما لك رئي من الجن يخبر قومه كما يعتقد العرب في بعضهم، ولكنك رسول الله حقاً.

يقول الشنقيطي: نفى الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة رماه بها الكفار، وهي الكهانة والجنون والشعر، فقال: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:٢٩ - ٣٠].

أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون فقد نفاهما صريحاً بحرف النفي، الذي هو (ما) في قوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) وأكد النفي بالباء في قوله: ((بِكَاهِنٍ)).

وأما كونه شاعراً فقد نفاه ضمناً بـ (أم) المنقطعة في قوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ))؛ لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن النفي؛ لأن (أم) المنقطعة تقدر ببل والهمزة، والمعنى: بل أيقولون: شاعر؟ فـ (بل): للإضراب، و (أيقولون) هذه همزة الاستفهام التي فيها معنى الإنكار.

وقد جاءت آيات بنفي هذه الصفات عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول سورة القلم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:٢]، وقال في التكوير: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:٢٢]، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين -أعني: الكهانة والشعر-: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:٤١ - ٤٢].

وقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) يعني: حوادث الدهر أو الموت؛ لأن المنون قد يراد به الدهر، وريبه: صروفه، وقد يراد به الموت، وريبه: نزوله.

ثم قال تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:٣١] أي: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد.

فقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي: ننتظر به حوادث الدهر حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه، التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي: أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع لأن الضمير في قوله: (وريبه)، يدل على أن المنون هو الدهر.

ومن ذلك أيضاً قول آخر: تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت حليلها وقال بعض العلماء: المنون في الآية: الموت.

إذاً: القول الأول: المنون في الآية هو الدهر.

وريبه: هي حوادث الدهر.

القول الآخر: المنون: الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب.

ومنه قول أبي الغول الطهوي: هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى، جاءوا من جهات مختلفة، فجمع الموت بينهم في محل واحد، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى، فالمنون هنا بمعنى: الموت.

والوقبى اسم مكان من بلاد بني مالك تجمعوا فيه، ثم جاءت ضربة الموت وأخذتهم كلهم ضربة واحدة، فجمعت هذه الضربة بينهم في مكان واحد، ولو كان كل واحد منهم مات في بلده، لماتوا أماكن شتى، لكن الموت هنا جمعهم.

قوله تعالى: ((قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)) يعني: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد.

وقوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)) يعني: فما أنت وقد أنعم الله عليك بالإسلام وبالنبوة وبالوحي: ((بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ)).

وهناك قول آخر: أن قوله: ((بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)) هنا قسم، لكن الأظهر هو القول الأول، والله أعلم.