للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة)

قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٨٣].

قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى، ولابد من ربط هذا الشرط بما قبله، يعني: إن كنتم على سفر وتداينتم؛ لأن صدر هذه الآية مرتبط بالآية التي قبلها، وهي أطول آية في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:٢٨٢] فلابد من ربط هذه الآية بما قبلها يعني: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى وكنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة، يعني: الذي يستوثق به في هذه الحالة: رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه.

وهذا الرهان إنما يكون إذا لم يأمن بعضكم بعضاً بلا وثيقة، والدليل على هذا أنه سبحانه قال بعد ذلك مباشرة: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة فيه وبأمانته عن الوثيقة ((فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)) يعني: من باب: أدِ الأمانة إلى من ائتمنك (فليؤد الذي اؤتمن) وهو الشخص المدين، وإنما عبر عنه بذلك ولم يقل: فليؤد المدين الدين وإنما قال: (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) لأن الرجل إذا وثق فيك وكان بوسعه ألا يعطيك هذا المال إلا باستيثاق برهن أو غيره، فإنه يجب ألا تخيب ظنه وقد أحسن الظن فيك.

وكثيراً ما يحصل نزاع بين الناس بسبب هذا الأمر، ويشتكي كثير من الناس من أن بعض الناس لا يؤدي الحقوق إذا حان أجلها، بل منهم من يجحد ويماطل! فنذكر في هذا المقام عبارة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حينما قال: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان.

فإذا كان الشخص فعلاً متصفاً بصفة الأمانة فالأمين لا يمكن أبداً أن يخون إلا أن يشاء الله، لكن الذي يحصل أنك تضع ثقتك في غير موضعها، ولكن اؤتمن غير أمين فخان، فهذا هو الواقع الذي يحصل، فالله سبحانه وتعالى كما ترون قد أنزل أطول آية في القرآن -وهي آية الدين السابقة- لأجل حفظ مال المسلم في جنيهات معدودة، فبين كيف تحفظ له؛ ولذلك يعتبرون هذه الآية من آيات الرجاء، وهناك بحث لطيف يذكره بعض العلماء وهو مبحث بعنوان: ما هي أرجى آية في القرآن؟ وفي المقابل أيضاً ما هي أخوف آية في القرآن؟ فبعض العلماء ذهب إلى أن أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي والكبائر من الموحدين هي هذه الآية آية الدين، ووجه ذلك أن هذه الآية تبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يرعى ويحفظ ويشرع من التشريعات ما يضمن حق المسلم ويراعي شئونه حتى في أشياء دقيقة، فأنزل أطول آية في القرآن لحفظ مال يسير من الدريهمات أو الجنيهات، وإذا كان كذلك فلا شك أن عناية الله سبحانه وتعالى بعبده المؤمن في عرصات القيامة وفي أهوالها يرجى أن تكون أعظم، وأن تكون رحمته أوسع، فهذا هو وجهها.

بعض الناس يستحيي في هذا المقام من كتابة الدين، وهذا غير صحيح؛ لأن الاستيثاق بالكتابة أو بالإشهاد ليس معناه أنك تخونه أو أنك لم تثق به، لكن هذا يكون لاعتبارات كثيرة، منها: أنك يمكن أن تموت أنت أو يموت هو وبالتالي ينتقل لورثته الحق، وورثته إذا قالوا: أين ما يثبت أنه كان لك دين على الميت؟ فلا شك أن التوثيق يثبت الدين ويحسم الخلاف ويضبط حقوق الناس.

والأمر الآخر: أن بعض الناس قد ينسى، فبعض الناس يكون حريصاً في قلبه على أن يوثق الدين، لكنه يستحي وهذا الاستحياء لا يسمى استحياء لكنه عجز، وهو لا يدخل في الحياء المحمود وإنما هو عجز.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم - وذكر من هؤلاء الثلاثة- رجل أدان ديناً فلم يشهد عليه) أي: أقرض رجل رجلاً مالاً ولم يشهد عليه ولا كتبه، فلما جاء موعد حلول أجل الدين وطالبه به جحده وقال: ما لك عندي شيء، فهنا إذا دعا صاحب المال على هذا المدين المقترض لا يستجيب الله سبحانه وتعالى دعاءه عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد شرع من الأحكام ما يضمن له حقه، وهو الذي بمحض إرادته تخلى عنها وتنازل عنها، أو هو الذي وضع ثقته في محل لا يستحقها، أي: ائتمن شخصاً وهو غير أمين.

فالشاهد من ذلك: أنه إذا دعا عليه لا يستجاب له، وكيف يدعو عليه وقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الطويلة التي هي أطول آية في القرآن، ثم هو بمحض إرادته لم يعمل بها، فليلم نفسه ولا يلم غيره؛ فهو الذي قصر.

يقول تبارك وتعالى هنا: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة والأمانة عن أن يأخذ منه رهناً.

(فليؤد الذي اؤتمن أمانته) المقصود به: المدين، وإنما عبر عنه بذلك لأنه العنوان لتعينه طريقاً للإعلام؛ لأنه لا يوجد طريق للإعلام الحق سوى الائتمان والثقة ولحمله على الأداء (أمانته) أي: دينه، وإنما سمي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به.

(وليتق الله ربه) يعني: في رعاية حقوق هذه الأمانة، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التحذير والتأكيد ما لا يخفى.

(ولا تكتموا) يعني: أيها الشهود! لا تكتموا الشهادة.

(ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قال الزمخشري: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فإنه آثم)، وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده.

يعني: الرجل هو الآثم وليس قلبه فقط.

قال الزمخشري: قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها في قلبه، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إلى القلب؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني، ومما عرفه قلبي؛ ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: قد تمكن الاسم في أصل نفسه، وملك الاسم أشرف مكان فيه وهو قلبه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، ولكنه أيضاً متعلق بالقلب (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).

فاللسان عبارة عن ترجمان عما في القلب؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح.

(وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى (ولم تجدوا كاتباً فرهان) وفي القراءة الأخرى (فرهُنُ) وكلاهما جمع رهن (مقبوضة) مقبوضة أي: تستوثقون بها، وهذا القيد الذي جاء في هذا الحكم معلق بقيدين (إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً) فالقيد الأول: أن يكونوا في السفر، والقيد الثاني: عند افتقاد الكتَّاب، لكن بينت السنة جواز الرهن في الحضر، وجواز الرهن مع وجود الكاتب، حتى لو وجدنا كاتباً وأمن بعضنا بعضاً ولم نكتب فلا حرج في ذلك.

والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) فهذا كان في الإقامة ولم يكن في السفر، وهم كانوا في المدينة، وسيجدون كاتباً، لكنه مع ذلك لم يكتب.

فالتقييد بما ذكر من السفر ووجود الكتاب؛ لأن التوثيق فيه أشد؛ فالتوثيق في حالة السفر يحتاج الإنسان إليه أكثر من حالة الحضر.

وأفاد قوله تعالى: (فرهان مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن يعني: أنه لابد من قبض الشيء المرهون، وأن يحوزه الشخص المرتهن.

وأفاد قوله: (مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن.

(فإن أمن بعضكم بعضاً) أي: أمن الدائن المدين على حقه فلم يرتهن (فليؤد الذي اؤتمن) أي: المدين (أمانته) دينه (وليتق الله ربه) في أدائه (ولا تكتموا الشهادة) إذا دعيتم لإقامتها (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) خص بالذكر لأنه محل الشهادة، ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين.