[تفسير قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم)]
ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعاً من محبة الله، ومحبة واسطة الوصول إليه، ومحبة ما يعلي دينه، والمحبة محبتان: محبة طبعية ومحبة شرعية، أما المحبة الطبعية الفطرية فكمحبة الأب لابنه أو الابن لأبيه، أو الرجل لزوجته، وكمحبة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابن أخيه، فهذا نوع من المحبة الطبعية أو الجبلية، لكن الإيمان يقتضي أن يترك المؤمن الميل الطبيعي إذا كان هذا الميل مانعاً وحائلاً دون محبة الله، ودون محبة واسطة الوصول إلى الله، وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون محبة ما يعلي دينه وهو الجهاد في سبيل الله، فإذا كان محبة هذه الأشياء المذكورة -خاصة محبة الآباء والإخوان- تحول دون محبة الله ومحبة رسول الله ومحبة الجهاد في سبيل الله، فالإيمان يقتضي ترك هذا الميل الطبيعي وتقديم الميل والحب الشرعي عليه.
فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة:٢٤] يعني: أقاربكم الأدنون أو قبيلتكم، قال أهل اللغة: عشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون، أقرب الناس إليه من حيث أبيه، أو قبيلته، والعشير مأخوذ من العشرة أو المعاشرة؛ من العشرة -الذي هو العدد- لأنها عدد كامل، ومن المعاشرة؛ لاختلاطهم وتقاربهم من بعض.
قوله: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التوبة:٢٤] يعني: اكتسبتموها.
قوله: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة:٢٤] أي: فوات وقت نفادها بفراقكم لها.
قوله: {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} [التوبة:٢٤] منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين.
قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:٢٤] الذي هو المنعم لكم بكل هذه النعم، من الولد والمال والمسكن وغير ذلك، فإن كانت هذه الأشياء المنعم بها تتعارض مع محبة المنعم بها، فلا ينبغي أن تسترسلوا مع الميل إليها، وتؤثروها على مرضات الله عز وجل.
قوله: {وَرَسُولِهِ} [التوبة:٢٤] وهو واسطة نعمه.
قوله: {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:٢٤] أي: مما يعلي دينه.
قوله: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:٢٤] أي: انتظروا.
قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:٢٤] يعني: بقضائه، وهو العذاب العاجل، أو العقاب الآجل، أو هو فتح مكة، وهذا أمر فيه تهديد وتخويف، يعني: فارتقبوا قهر الله؛ لأنكم تدعون محبة الله، ولكن في نفس الوقت واقعكم يكذب هذه الدعوى؛ لأنكم ترجحون محبة غيره على محبته سبحانه وتعالى.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٤] أي: الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين، والمؤثرين لما ذكر على رضاه تبارك وتعالى.
وفي الآيتين الكريمتين تحريم موالاة الكفار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٣ - ٢٤]، فيحرم موالاة الكفار ولو كانوا أقرباء، وهذه الموالاة كبيرة؛ لوصف متوليهم بالظلم، في الآية أيضاً وجوب الجهاد وإيثاره على كل المشتهيات المعدودة، طاعةً لله ورسوله.
قال الرازي: الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
ونحن نحتاج هذه الآية كثيراً في هذا الزمان؛ لكثرة ما يتعرض له الإنسان من مواقف فيها موازنة بين الدين والدنيا، كما تأتي أسئلة كثيرة من هذا القبيل مثل: ما حكم بناء الشاليهات لهؤلاء الذين يأتون ليفسقوا فيها؟ أو ما حكم من يعمل في وظيفة فيها إعانة للعاصي على عصيانه؟ أو ما حكم بيع ملابس للمتبرجات؟ وغير ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل كل أعراض الدنيا هذه في كفة، وجعل محبة الله ورسوله في كفة، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
فنحن نحتاج في الحقيقة إلى تدبر هذا، والإنسان ينبغي عليه أن يستحضر أنه في حالة امتحان وابتلاء في هذه الدنيا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان خلق ليبتلى {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:٢]، فأنت إذا تركت شيئاً لله لا يمكن أن يضيعك الله، والله سبحانه وتعالى يعوضك، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣].
فينبغي للإنسان أن يقدم الدين ولا يبالي بالدنيا؛ لأن الدنيا إذا فاتت تعوض، لكن الدين إذا جرح فلا عوض له أبداً، كما قال الشاعر: من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض إذا فقد الإنسان الولد رزق غيره، وإن مرض زال المرض وأتته العافية، وإن ذهب المال فالمال غاد ورائح، لكن إذا خسرت الله فقد خسرت كل شيء، وإذا كان الله معك فإن معك كل شيء، فنحن نحتاج في هذا الزمان أن نعي هذا الكلام جيداً؛ لنحسن الموازنة والمفاضلة بين الدين والدنيا.
لأننا نجد -وهذا كمثال- بعض الناس إذا أخذ منه شيء من أمور الدنيا فإنه مستعد أن يقاتل جميع من على وجه الأرض كي يستخلص حقه، فينكر هذا المنكر بالقلب وباللسان وباليد، وربما بغى على من يخاصمه، لكن في المقابل إذا رأى حدود الله سبحانه وتعالى تنتهك، أو رأى حرمات الله عز وجل يعتدى عليها؛ فلا يحرك ساكناً، ولا يتمعر وجهه غضباً لله سبحانه وتعالى! فهذه الآية تمتحن التزامنا وتمتحن تعظيمنا للدين؛ لأن أغلب الناس يميلون إلى ترجيح الدنيا على حساب الدين، ويغترون بحال أكثر الناس، ويقول لك: الناس كلهم يفعل هكذا، ويغتر بحال هؤلاء الذين لا يبالون بدينهم، وينبهرون بدنياهم، ولو أن إنساناً وجد الناس جميعاً يقفون في الحر الشديد، وأمامهم مكان آخر فيه ظل، فهل تراه سيقف معهم في ذاك الحر الشديد، ولا يأوي إلى ذلك الظل؟! فإذا لم يتابعهم في حر الشمس فكيف يتابعهم في حر جهنم والعياذ بالله؟! والدنيا ما هي إلا أيام تعد، وأنفاس تذهب {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:٨٤]، والعد التنازلي في عدد الأنفاس المكتوبة لك يبدأ منذ ولدت، فأنت كل يوم أقرب إلى القبر من الذي قبله، في كل لحظة أنت أقرب إلى القبر من اللحظة السابقة عليها، فعلى الإنسان أن يتأهب للقاء الله سبحانه وتعالى، وألا يؤثر شيئاً على دينه؛ لأن من هان عليه دينه لم يعز عليه شيء، فعلى الإنسان أن يقدم دينه على كل شيء وإذا كان لابد أن يضحي فليضح بأي شيء ما عدا الدين، فإنه أعز ما ينبغي أن يعز عليه.
يقول الرازي: في هذه الآية دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جمع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
وفي هذه الآية وعيد وتشديد؛ لأن كل أحد قلما يخلص منها، وقيل: إنها أشد آية نعت على الناس ما هم عليه من رخاوة في الدين، نبه على ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأخوات والإخوان والعشائر والمال والمساكن، وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول، ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي، كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟! يعني: أننا في مصائب الدين نتهاون بها جداً كأن ذباباً وقع على أنف أحدنا فقال به هكذا يطيره، وهذا كحال من يأتي بالدش -الستالايت- أو التلفاز أو الفيديو إلى منزله؛ ليفسد أولاده وزوجه ومن في البيت جميعاً، ثم لا يبالي بذلك الفساد العظيم، بل قد يكون مسروراً به، وهو يرى أهله وذويه يتلقون ما يفسد العقائد والأخلاق، والانحلال والفجور، ولا يحرك ساكناً، ولا يبالي بهذه المصيبة الكبيرة! لكن انظر إلى هذا إذا جرح في دنياه، كأن يتنازع مع شخص ما على قطعة أرض، أو إذا صدم رجل سيارته فأتلف له شيئاً منها، فتراه يثور ويهيج ولا يتركه حتى يصلح له ما أفسده، في الدنيا حاضر بقلبه وسمعه وبصره، ينافح عنها بكل ما يملك، أما جرح الدين فلا يبالي به، أولاده لا يصلون لا يبالي، بناته متبرجات لا يبالي!