[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت)]
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:١٠٦ - ١٠٨].
هذه الآية من الآيات التي تحتاج إلى انتباه في فهمها وتفسيرها، وقد أفاض المفسرون في الكلام فيها، حتى قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً.
وإن كان بعض العلماء لا يوافقونه على ذلك.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) معنى (إذا حضر أحدكم الموت) أي: حضر الموت حقيقة، أي: مقدماته وأماراته.
فقوله تعالى: (حضر أحدكم الموت) يعني: حضر أحدكم أمارات وعلامات الموت.
(حين الوصية) هذا بدل من الظرف، وليس ظرفاً للموت ولا لحضوره، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها.
وقوله تعالى: (اثنان) خبر (شهادة) الذي هو المبتدأ، فالخبر هنا متأخر، وهو (اثنان) فيعرب على أنه خبر مرفوع بالألف لأنه مثنى، فقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان) يعني: شهادة اثنين.
فيقدر هنا مضاف، فيكون التقدير: شهادة بينكم حينئذٍ شهادة اثنين.
أو يعرب على أن (شهادة) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان.
فتكون لفظة (اثنان) هنا فاعل لـ (يشهد).
(ذوا عدل منكم) أي: من المسلمين (أو آخران من غيركم) أي: من أهل الذمة.
فإذا عجزتم عن المسلمين فآخران من غيركم من أهل الذمة.
(إن أنتم ضربتم في الأرض) أي: سافرتم فيها.
(فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما) أي: توقفوهما للتحليف.
(من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر، كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، لكن كيف يقال: إنها صلاة العصر، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يعين صلاة العصر في القرآن الكريم؟ قيل: عدم تعيينها لتعيينها عندهم للتحليف بعدها؛ إذ عند المسلمين تعظيم الحلف بعد العصر، كما في الحديث: (ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر)، فوقت العصر له وضع خاص في القسم فيه، وإن كان الإنسان مطالباً بالصدق في الأيمان في كل وقت.
فإذاً: المعنى: من بعد صلاة العصر.
كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، وعدم تعيينها لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها، لأنه ليس وقت اجتماع الناس، فإن الناس في الغالب يكونون في السوق فترة الضحى والظهيرة، فإذا جاء وقت العصر انفضوا من السوق، حتى إن الإنسان الذي عنده رأس مال إذا جاءه وقت العصر تكون قد ذهبت عليه الصفقات في هذا الوقت، فيريد أن ينفق سلعته لأنه سيخسر.
ولذلك قال بعض العلماء: ما فهمت هذه الآية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:١ - ٢] حتى جئت يوماً من الأيام إلى السوق بعد العصر، فإذا تاجر ممن كان يبيع الثلج المجمد في قوالب يجري في السوق ويصرخ في الناس ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله.
لأن هذا الثلج إذا ذاب وصار ماءً فهل سيستطيع بيعه بعد أن يذوب؟ لا، فقال: إن هذه الآية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:١ - ٢] تعني أن العصر رأس مال الإنسان، وهو الوقت، فإذا ضاع منك الوقت فقد خسرت الربح وخسرت -أيضاً- نفس رأس المال إذا ضاع عمرك.
فقوله تعالى: (من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر.
وأول شيء من أسباب تخصيص صلاة العصر بالذكر هو أن العصر وقت اجتماع الناس في المسجد، فينفض السوق ويجتمع الناس جميعاً في المسجد لصلاة العصر.
كما أن العصر وقت تعاقب ملائكة الليل وملائكة النهار، فيجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار -كما هو معلوم- في صلاة العصر وصلاة الفجر.
وحينما يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار ففي ذلك تكثير للشهود منهم على صدقه أو كذبه، ومعناه أن الشهود ستكثر على ابن آدم، فملائكة الليل وملائكة النهار موجودة شاهدة على هذا الذي يحلف، سواء حلف كاذباً أو حلف صادقاً، فلعل هذا من الحكمة في تخصيص صلاة العصر.
ومعلوم أن هذا غير حاصل في صلاة الفجر، فصلاة الفجر الناس بعدها يعودون إلى بيوتهم، وإن كان يحصل وجود ملائكة الليل والنهار.
وعن الزهري أنه قال في تفسير الآية (من بعد الصلاة): بعد أي صلاة للمسلمين كانت، وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق.
فالإمام الزهري يقول: بعد أي صلاة، ولا يشترط أن تكون صلاة العصر؛ لأن الإنسان إذا صلى فالصلاة تدعو إلى الخير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، إذا كان حديث عهد بالصلاة فإن الصلاة تنهاه عن أن يكذب في حلفه، فهي داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥] فالتعريف بالصلاة إما للعهد الذهني أو للجنس، فإذا قلنا: إنها للعهد الذهني فالمراد صلاة العصر، مثل قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:١٦] ومعلوم من هو الرسول، فهو موسى عليه السلام، ومثل قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:٣٠] فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، فكذلك (أل) في (الصلاة) إذا قلنا: إنها للعهد فهي الصلاة المعهودة وهي صلاة العصر، أو أن اللام للجنس فتشمل كل صلاة على قول الزهري.
قوله تعالى: (فيقسمان بالله) أي: يحلفان.
(إن ارتبتم) أي: إن شككتم فيهما بخيانة، أو أخذ شيء من تركة الميت.
قوله تعالى: (لا نشتري به ثمناً) جواب للقسم، أي: والله لا نشتري به ثمناً.
أي: يا فلان! لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله -أي: عرضاً من أعراض الدنيا- أن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب، أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال.
(ولو كان) أي: لو كان من نقسم له ونشهد عليه ذا قربى، ودل عليه فحوى الكلام، (ذا قربى) أي: قريباً منا.
واسم كان الضمير (هو)، والتقدير: ولو كان هو ذا قربى.
أي: من نقسم له ونشهد عليه، وفحوى الكلام يدل عليه.
فقوله تعالى: (ذا قربى) أي: قريباً منا، تأكيداً لبراءتهم من الحلف كاذباً، ومبالغة في التنزه عنه، كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من حرمة اسمه تعالى مالاً، واضمم إليه رعاية جانب الأقرباء، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! يعني: لو كان قريباً ما كنا لنفعل هذا، فكيف لو لم يكن قريباً لنا؟! فهو أبعد لنا من أن نشتري به ثمناً.
(ولا نكتم شهادة الله) أي: الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها.
وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريف لها وتعظيم لأمرها.
(إنا إذاً لمن الآثمين) يعني: إنا إذاً إن كتمناها لمن المعدودين والمستقرين في الإثم.