للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام على نسخ الصدقة بين يدي المناجاة]

هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ وقوفاً مع ظاهرها، وقد أسلفنا في مقدمة التفسير ومواضع أخرى أن النسخ في كلام السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، كما أن المراد من سبب النزول مما يتبادر إليه الفهم، فحينما يقال: نزلت هذه الآية في كذا، ليس المقصود في كل الأحوال أنها بالفعل كذا، وتكون قد نزلت الآية، وإنما المقصود: أن هذه الآية يشمل حكمها الواقعة المذكورة، وسبق التنبيه إلى ذلك مراراً.

كذلك كلمة النسخ أعم من المعنى الضيق الذي هو: رفع الحكم وإزالته بالكلية حتى لا يجوز امتثاله.

فقول قتادة هنا: (فأنزل الله الرخصة بعد ذلك)، ليس مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية، لا أن نزولها كان متراخياً عن الأولى، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم.

يعني القاسمي رحمه الله تعالى يستبعد القول بالنسخ بمعنى الإزالة ورفع الحكم الذي هو النسخ الأصولي المعروف؛ لأن هذا مستحيل على رونق الآية، ولو تأملنا سياق الآيات، على القول أنها نزلت الأولى أولاً، ثم بعد عشرة أيام أو حتى بعد ساعات يأتي ما يتنافى معها، فهذا لا يتناسب مع رونق هذه الآية، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:١٢]، ثم قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:١٣].

فإن القول بتراخي النزول مستحيل على رونق نظمها الكريم، والأصل في الآي المقررة لحكم النسخ هو اتصال جملها وانتظام عقدها، إذ به يكمل سحر بلاغتها، وبديع بيانها، وتمام فقهها.

والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل لهم في الآية وجوه: الوجه الأول: منها قول أبي مسلم إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى؛ ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت، فلا جرم أن يقدر هذا التكليف بذلك الوقت.

يقول الرازي: وحاصل قول أبي مسلم: أن ذلك تكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة، -يعني: التكليف بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم كان له أمد محدود وغاية مخصوصة- فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخاً.

وهذا الكلام حسن ما به بأس.

انتهى كلام الرازي.

الوجه الثاني: أن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب، يعني: أن الذين قالوا إن النسخ هنا هو النسخ الأصولي، استندوا إلى أن الأمر بالصدقة على سبيل الوجوب، ودفعهم إلى أن يقولوا بالوجوب قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:١٢]، ففهموا منه أن من وجد ولم يقدم صدقة يكون آثماً، أما من لم يجد ((فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).

وقال تعالى: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ))، فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه.

و

الجواب

أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب، بل الظاهر أنه للندب، والدليل أن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:١٢]، وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض.

والثاني: أنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به؛ لأن الله قال: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ)) إلى آخر الآية.

فهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب، ويبقى الأمر للندب، فإذا قلنا: إنه على الندب فحينئذ لا نحتاج إلى الكلام في قضية النسخ بالمعنى الأصولي، وإنما النسخ بمعنى التبيين والتوضيح ونحو ذلك.

الثالث: الذي يدل على أنه للندب أن قول الله تبارك وتعالى: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم؛ فإذا ندبكم إلى هذا الأمر ولم يجعله عليكم فرضاً كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة؛ فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله.

فقوله: ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) معناه هنا: الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها.

وقوله: ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) ليس معناه التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب، وإنما معناه الرجوع إلى التخفيف والتسهيل، ورفع الحرج عن هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها من الأمم، كما قال الله تعالى في سورة المزمل: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:٢٠]، يعني: رجع إليكم بالتخفيف، ورفع عنكم ما يشق عليكم، وليس معناه في هاتين الآيتين: العفو عن الذنب؛ إذ لم يصدر منهم هنا ذنب أصلاً حتى يقال إن الله تاب عليهم.