وقد تكلم هنا -أيضاً- الرازي بكلام يبخل الإنسان بأن يتجاوزه، يقول: اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل، والعنب، والزيتون، والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، ولذلك قدم الزرع أولاً، ثم تكلم عن الشجر، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهةً في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات، وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر تظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم بعدها يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، وهو من ألذ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، فيمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات، وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن أن يذكروها إلا في المجلدات، وأحسن ما في العنب عجمه، والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة، فثبت أن العنب سلطان الفواكه.
وأما الزيتون فهو -أيضاً- كثير النفع؛ لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل -أيضاً- عنه دهن كثيف عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمالات.
وأما الرمان فحاله عجيب جداً، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه، أما الأقسام الثلاثة الأول -وهي: القشر والشحم والعجم- فكلها باردة يابسة قابضة قوية في هذه الصفات، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبةً للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغيرين، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم.
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي.