[كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في صفة القرب لله تعالى]
ثم يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت ابن كثير مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وابن كثير من أوفى تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان يحبه حباً شديداً، حتى إنه أوصى أن يدفن معه بعد موته رحمه الله وقد تم له ذلك.
فسبق شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "شرح حديث النزول".
يقول شيخ الإسلام: ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاًً، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦] فهو سبحانه قريب ممن دعاه، وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته).
فقال: (إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم) ولم يقل: إنه قريب إلى كل موجود.
يعني: هو أقرب إلى أحدكم إذا دعاه وإذا ذكره، ولم يقل: إن الله سبحانه وتعالى قريب إلى كل موجود.
وكذلك قول صالح عليه السلام: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:٦١].
ومعلوم أن قوله: ((قَرِيبٌ مُجِيبٌ))، مقرون بالتوبة والاستغفار، أراد بـ ((قَرِيبٌ مُجِيبٌ)) لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود.
وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه سبحانه وتعالى.
فالقرب يأتي في القرآن خاص، لكن العلم عام.
وأسماء الله المطلقة كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب لا يجب أن تتعلق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلق بكل شيء، لكن اسم القريب إنما يتعلق تعلقاً خاصاً.
وأما قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فالمراد به قربه إليه بالملائكة.
هذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا ترون الملائكة.
وقد قال طائفة: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) بالعلم، وقال بعضهم بالعلم والقدرة والرؤية، وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود، حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة.
هكذا شيخ الإسلام يرد على من قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يعني أقرب إليه بالعلم، فيقول: العلم عام وشامل، ولكن القرب خاص، وليس في القرآن أن الله قريب من كل موجود، كما يفهم ذلك في العلم؛ لأن الله بكل شيء عليم.
يقول: ولكن بعض الناس لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية، وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤]: أي: هو معكم بعلمه مع علوه على عرشه.
وذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لم يخالفهم فيه أحد.
ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك، أنه قال: هو فوق عرشه وهو قريب من كل شيء، وإنما قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٦] وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦] يعني: قربه ممن يدعوه ويسأله.
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦]) ولا يقال في هذا قريب بعلمه وقدرته؛ فإنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء.
أي: فهم لم يشكوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما سألوا عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب.
قال: وطائفة من أهل السنة تفسر القرب في الآية والحديث بالعلم، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل المقصود، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: إن القرب بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف، ولكن لم يقل أحد منهم: أن ذات الله سبحانه وتعالى هي قريبة من كل موجود، وهذا المعنى يقر به جميع المسلمين، من يقول إنه فوق العرش، ومن يقول إنه ليس فوق العرش.
أما أصحاب المواويل وهذه الأشياء فإنهم يقولون كلاماً فظيعاً، وهو فساد في العقيدة، والناس تردده دون أن تعي، يقولون في بعض الأناشيد: موجود في كل وجود.
إذاً: هذه عقيدة باطلة؛ لأن اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل وجود بذاته حلول والعياذ بالله وكفر، وإنما العموم هنا لعلمه وسمعه وبصره.
ثم قال شيخ الإسلام: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جل وعلا قريبة من وريد العبد ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة، فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية.
أي: لما فهموا أن القرب مثل العلم، فسروا القرب بأنه مثل المعية، ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:٨٥] يعني: بملائكتنا في الآيتين، وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه يجزيهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش، فلا يُجْعلَ لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهم، لأن هناك فرقاً بين القرب وبين العلم والمعية.
قال: ثم قال تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) لا يجوز أن يراد به مجرد العلم؛ فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره لمجرد علمه به ولا بمجرد قدرته عليه، ثم إنه سبحانه وتعالى عالم بما يسر من القول وما يجهر به وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد.
أي: لو كان قرب العلم فلا معنى لتخصيص حبل الوريد؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولأن العلم عام لكن القرب خاص فلا يصح تفسير القرب بالعلم؛ لأنه لا فرق بين حبل الوريد وغيره في العلم، لكن قربه هنا قربه بالملائكة كما ذكرنا.
قال: فإن حبل الوريد قريب إلى القلب وليس قريباً إلى قوله الظاهر، فهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه، قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:٧].
ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياق الآية؛ فإنه سبحانه وتعالى قال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) وأخبر أنه يعلم وسواس نفسه، ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب، فيفهم من هذا أنهما شيئان مختلفان فلا تجعل أحدهما هو الآخر.
أي: فهنا لا يصح تفسير قربه بالعلم؛ لأنه قرن بينهما في الآية فقال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر.
قال: وقيد القرب ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}.
وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف، وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان وإنه قريب من كل شيء بذاته لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء.
أي: وحتى على مذهب هؤلاء لا يصح هذا التفسير، هذا هو المقصود من كلام شيخ الإسلام.
ولذلك أهل السنة يقولون لهؤلاء: إذا كان الله في كل مكان، فهل الله في أماكن النجاسات ونحوها؟! لكي يلزموهم أن هذا مذهب باطل، وأن الله منزه عن أن يتواجد في كل مكان.