[تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)]
لما قدم الله تعالى دعوة الناس عموماً وذكر مبدأهم في الآيات السابقة، تكلم عن بدأ الخلق، وذكر قصة آدم وحواء عليهما السلام، ودعا وخص من كل بني آدم بني إسرائيل بالذات، فخص سبحانه وتعالى بالخطاب بني إسرائيل -وهم اليهود- لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وقد جرى الكلام معهم هنا من الآية رقم (٤٠) إلى الآية رقم (١٤٢)، فكل الخطاب في الآيات المقبلة إلى الآية رقم (١٤٢) هو في بني إسرائيل، يعني: أن مائة آية كلها في خطاب بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا أولى الناس بأن ينقادوا ويؤمنوا بهذا النبي الأمي العربي صلى الله عليه وآله وسلم.
ونلاحظ في هذه الآيات المائة أنه تارة دعاهم بالملاطفة، وتارة بذكر إنعام الله سبحانه وتعالى عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وتارة بذكر عقوباتهم التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها، فقال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:٤٠].
قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب عليه السلام؛ لأن إسرائيل هو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد هيجهم الله تعالى بذكر أبيهم إسرائيل، كما قال لنا في أول سورة الإسراء: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:٣] يخاطبنا بذلك؛ لأن الأب الثاني للبشرية هو نوح عليه السلام، وذكرنا بنوح؛ لأن نوح عليه السلام كان عبداً شكوراً؛ كان يأكل اللقمة فيحمد الله عليها، ويشرب الشربة فيحمد الله عليها، فهذا تعريض بنا نحن.
فقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:٣] أي: كونوا كأبيكم نوح؛ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:٣] أي: فكونوا أنتم كذلك شاكرين لله سبحانه وتعالى كأبيكم نوح، فهذا هو المقصود بقوله: (ذرية) يعني: يا ذرية (مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) أي: فكونوا مثله.
وهنا خاطب بني إسرائيل باسم أبيهم يعقوب عليه السلام تهييجاً لعواطفهم، وتذكيراً بأن هذا العبد الصالح كان مطيعاً لله، يعني: فكونوا مثله، وكأنه قيل: يا بني العبد الصالح المطيع لله! كونوا مثل أبيكم، كما تقول: يا ابن الكريم! افعل كذا، يا ابن العالم! اطلب العلم، فكذلك هنا المراد: يا بني إسرائيل العبد الصالح المطيع لله! أطيعوا الله كما أطاعه أبوكم إسرائيل عليه السلام.
وقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل كثيرة جداً منها: اصطفاؤه منهم الرسل؛ لأن الأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام كانوا جميعاً من ذرية يعقوب عليه السلام، ولم تخرج عنهم إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو من ذرية إسماعيل عليه السلام.
ومن هذه النعم إنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وألا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها وجحد صنائعه سبحانه وتعالى عنده.
فالنعم نص الله عليها في كثير من الآيات مثل قوله تبارك وتعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:٥٧]، ومثل قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:٤٩]، ومثل قوله تعالى: {ونريد أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:٥].
وقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ العهد هو: الميثاق، وقد أشير إليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:١٢] فهذا هو عهده، وهذا هو عهدهم.
أما عهدهم هم فهو في قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} [المائدة:١٢] يعني: أن هذا هو حق الله على العباد، كما جاء في حديث معاذ.
إذاً: العهد الذي أخذه الله عليهم بينه الله في قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة:١٢].
ومن هذا العهد أيضاً ما جاء في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧] فهذا أيضاً داخل في عهدهم.
أما عهد الله فهو: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:١٢] فهذا عهده، وهذا عهدهم، فعهد الله هو وصيته لهم بما ذكر في الآية، ومنها الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام؛ لأن الآية: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} [المائدة:١٢] ومنهم خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وعهده تعالى إياهم هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة.
وقوله: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي: اخشوني واتقوني أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل! والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به، وتتبعوه، فإن لم تتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه أحل بكم عقوبتي.