تفسر قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وكان الله عزيزاً حكيماً)
انتهينا في تفسير سورة النساء إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:١٦٣ - ١٦٥].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ و)) أي: وكما ((أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)) ابنيه ((وَيَعْقُوبَ)) وهو ابن إسحاق ((وَالأَسْبَاطِ)) أولاده.
يعني: الأنبياء من ذرية يعقوب عليه السلام.
((وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا)) أباه، ((دَاوُدَ زَبُورًا)) بالفتح اسم للكتاب المؤتى، وبالضم مصدر بمعنى: مزبوراً، أي: مكتوباً، ((وَرُسُلًا)) أي: وأرسلنا رسلاً، وكلمة رسلاً منصوبة بفعل مقدّر وهو وأرسلنا رسلاً ((قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)).
روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي؛ أربعة آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس، قاله المحلي في سورة غافر عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:٧٨]، ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى)) بلا واسطة ((تَكْلِيمًا)).
((رُسُلًا)) بدل من (رسلاً) قبله ((مُبَشِّرِينَ)) بالثواب لمن آمن ((وَمُنذِرِينَ)) بالعقاب لمن كفر.
أرسلناهم ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ)) تقال ((بَعْدَ)) إرسال ((الرُّسُلِ)) إليهم {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:٤٧]، فبعثناهم لقطع عذرهم.
((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) في ملكه ((حَكِيمًا)) في صنعه.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشاداً، وإنما هو سؤال تعنت وجدال.
وبين عز وجل بعد ذلك أنواعاً من فضائح اليهود، أشار إلى رد شبهتهم، فاحتج عليهم بأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، بل سبقه من قبل أنبياء أوحى الله عز وجل إليهم، وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثلما أنزل على موسى، فهم أرادوا أن ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة.
فيجابون هنا: بأن الوحي كما أتى لأنبيائكم الذين تؤمنون بهم، لم يأت لهم جملة واحدة كما أنزل على موسى، ومع ذلك أنتم تؤمنون بهم؛ كذلك الحال بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن نزول الكتاب جملة واحدة من شرط النبوة، فبان أن سؤالهم إنما هو محض التعنت؛ ولذلك قال تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) إلى آخره.
قيل: بدأ بنوح؛ لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام، وبدأ بذكر نوح ترهيباً لهم، وإشارة إلى أنه أول نبي عوقب قومه بإرساله الطوفان عليهم، فهذا ترهيب ضمني لهم أن ينزل الله عليهم العذاب كما أنزله على قوم نوح، وظاهر الآيات يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى إليه كما أوحي إلى نبينا، وإن كان قد سبق نوح عليه السلام أنبياء، فلا يفهم من الآية أن هؤلاء الأنبياء لم يأتهم وحي أصلاً، وإلا لما كانوا أنبياء، وإنما أتاهم وحي ليس بنفس الكيفية التي أوحي بها إلى من بعد نوح عليه السلام.
يقول تعالى: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ)) يعني: في السور المكية، أو قصصنا عليك قصصهم.
((وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)) يعني: لم نسمهم لك في القرآن.
أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين نبياً ورسولاً من بني إسرائيل.
وروي في عدة الأنبياء أحاديث تكلم في أسانيدها، منها: حديث أبي ذر: (إن الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر)، وهذا صححه ابن حبان، وذكره ابن الجوزي في موضوعاته.