[تفسير قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم)]
قال تعالى عن المسيح: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:١١٧].
قوله: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) يعني: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به.
وهذا نزول في القضية مراعاة لحسن الأدب، ومراعاة لما ورد في الاستفهام ((أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ))، فقال هنا: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، وقوله: (أن اعبدوا الله) في محل رفع خبر لمحذوف تقديره: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به وهو: (أن اعبدوا الله ربي وربكم).
و (أن) هنا إما أنه لا موضع لها من الأعراب فتكون مفسرة، مثل قوله تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص:٦]، فـ (أن) هنا لا محل لها من الإعراب، وهي مفسرة.
ويجوز أن تكون في موضع نصب (أن اعبدوا الله) يعني: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله.
ويجوز أن تكون في موضع خفض، فيكون معنى (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا) أي: بأن اعبدوا الله.
وبعض العلماء يقول: إن النون هنا تضم؛ لأنهم يستثقلون كسرة تأتي بعدها ضمة في قوله: (أن اعبدوا)؛ لأن العين ساكنة، وأول حركة هي الباء، ونحن لا نتحدث عن الباء، ولكن الكسر جائز على أصل التقاء الساكنين.
قوله: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) يعني: رقيباً أراعي أحوالهم وأحثهم على العمل بموجب أمرك، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي.
وقوله: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) أي: لم تقع هذه المقالة منهم وهو بينهم، وإنما ابتدعوها بعد رفعه عليه السلام، ولذلك قال: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) أي: ما وجد شيء من هذا أبداً في فترة وجودي بينهم.
وقوله: (فلما توفيتني) يحتمل توفيتني بالموت، ويحتمل: توفيتني بالرفع، ولو قلنا: إنه يتعين تفسيرها بالرفع إلى السماء فهذه العقيدة في تأليه المسيح وعبادته لها بداية ولها نهاية، فما بدايتها وما نهايتها؟ إن بدايتها برفعه ونهايتها بنزوله؛ إذ هل سيسمح المسيح بوجود عقيدة تؤلهه بعدما ينزل إلى الأرض؟ أو هل سيسمح بوجود صليب أو خنزير؟! أليس في الأحاديث أن المسيح عليه السلام سيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؟ ومعنى هذا أنه ستنتهي تماماً هذه العقيدة من على وجه الأرض، ولن يقبل المسيح من الناس إلا الإسلام، ومن ثم سيوضع الحد النهائي لدعوى إلهية المسيح عليه السلام، ويتأيد هذا بقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:١٥٩] على أحد التفسيرين.
فإذاً: هذه العقيدة الشركية بتأليه المسيح لها بداية ولها نهاية، فبدايتها برفعه، والدليل قوله: ((وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، فهذا يكون من نفس حديث: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً).
فحين كان المسيح موجوداً ما ظهرت هذه المقالة، ونهايتها حينما ينزل المسيح عليه السلام فيقتدي بالمهدي، ويحكم بالقرآن، ويدعو إلى الإسلام، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما أن يسلم الناس وإما يقتلوا على يد المسيح نفسه.
فهذه العقيدة وقعت منهم بعد رفعه إلى السماء وتستمر إلى نزوله، ولم تقع منهم قبل رفعه، وأما بعد نزوله فلن يبقى نصراني أبداً، بل إما الإسلام أو السيف، فتعين أن يكون معنى (توفيتني) أي: رفعتني إلى السماء، كما في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:٥٥]، والتوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع من أنواع التوفي، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:٤٢]، وسبق في قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:٥٥] في آل عمران زيادة إيضاح على ما هاهنا.
وقوله: (كنت أنت الرقيب عليهم) أي: الناظر لأعمالهم، فمنعت من أردت عصمته من التفوه بذلك، وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا.
وقوله: (وأنت على كل شيء شهيد) أي: سواء في فترة بقائي بينهم أو بعد ذلك، فأنت على كل شيء شهيد.
وقد دلت الآية على أن الأنبياء عليهم السلام بعد استيفاء أجلهم الدنيوي ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم، وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً.
ثم قال: ((كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) [الأنبياء:١٠٤] إلى آخر الآية، ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فأقوال كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم.
فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) وحمل الحديث على من صحب الرسول إنما يصح في القلة القليلة التي ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله.