تفسير قوله تعالى:(وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم)
قال تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التوبة:١١٥] هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين والبراءة منهم وترك الاستغفار لهم؛ وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ما يتقون، ودلالته إياهم على الصراط السوي، فضلوا عنه فأضلهم الله واستحقوا عقابه تبارك وتعالى.
قوله:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا) يعني: هؤلاء القوم الذين حرمنا عليكم الاستغفار لهم ما كان الله سبحانه وتعالى ليضلهم إلا بعد أن أقام الحجة عليهم، حيث أتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغهم الحق وأقام عليهم الحجة ودعاهم إلى الهدى الذي يعصمهم من الضلال.
قوله:(بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) يعني: بعد أن بين لهم الحق.
قوله:(حتى يبين لهم ما يتقون) أي: من الشرك ومن الكبائر والمعاصي.
يقول عز وجل:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء:١٦٥] فقد بين الله لهم ما يتقون عن طريق الرسول ومع ذلك أبوا واستكبروا واستنكفوا وأصروا على الكفر، فمن ثم أضلهم الله بعد أن هداهم هداية البيان وليست هداية الانقياد للحق.
وكذلك قال سبحانه:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:٥٢]، وقوله في سورة الرعد:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:٧]، وفي قصة الهجرة لما سأل الرجل أبا بكر عمن معه؟ قال:(هو هاد يهديني) يعني: ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهو رضي الله عنه أراد أن يفر حتى لا يذكر له اسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:(هاد يهديني) يقصد يهديه إلى طريق الحق وإلى طريق الله سبحانه وتعالى.
قوله:(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل لما سبق أي: أنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته، فبين لهم ذلك كما فعل هنا؛ لأن العقل لا يستقل بمعرفة القبائح والأمور التي يبغضها الله، فلا يعذب الله قوماً حتى تقام عليهم حجة الرسل، يقول عز وجل:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:١٥]؛ لأن العقل لا يستقل ببيان الشرائع، فمن ثم لم يقل تبارك وتعالى: وما كنا معذبين حتى نرزقهم عقولاً أو حتى نفطرهم على التوحيد، وإنما قال:(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) فلابد أن تبلغهم الحجة االرسالية، فهؤلاء بلغتهم هذه الحجة الرسالية ومع ذلك أضلهم الله؛ لأنهم لم يستجيبوا لها.