للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون)]

قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة:٥٧].

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: نحن خلقناكم -يا معشر قريش- والمكذبين بالبعث فأوجدناكم بشراً ولم تكونوا شيئاً.

{فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: بالخلق.

وهم وإن كانوا مقرين به لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:٣٨] إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار.

أي: فقوله: ((فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ)) يعني: بأنا خلقناكم.

وقد يقول قائل: فهمنا من آيات أخر أن مشركي قريش كانوا يقرون بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، فما وجه هذا التفسير؟

و

الجواب

أنه لما كان هذا الإقرار بالخالق لم تترتب عليه العبودية له صار بمنزلة العدم.

ففهم أنه يصفهم هنا بأنهم لا يصدقون بأن الله هو الذي خلقهم، ولكن دلت بعض الآيات على أنهم يصدقون بأن الله تعالى خلقهم، فنزل تصديقهم الذي لم يثمر الطاعة والانقياد وتوحيد الله منزلة العدم.

وهناك تفسير آخر، وهو أن المعنى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: بقدرتنا على بعثكم وإعادتكم مرة أخرى؟! فإن من قدر على الإنشاء قادر على الإعادة.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: هذا الخلق الأول، {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: فهلا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني؟! لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى.

وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني جاء موضحاً في آيات كثيرة جداً، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧] ولا شك في أن إعادة الخلق هينة على الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧] أي: هين عليه.

وليس معنى قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧] أنه أسهل عليه.

وإنما هو من باب مخاطبة الناس بما هو معروف لديهم.

لكن ليس هناك سهل وأسهل على الله؛ لأنه سبحانه قادر على كل شيء قدرة متساوية.

فاستعمال هذا التعبير ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) إنما هو بالنسبة لما هو معهود عندكم أنتم أيها المخلوقون، فمن ابتدأ من الخلق شيئاً فلا شك في أن إعادته أسهل عليه من ابتدائه؛ لأنه أعرف بدروبه وبمسالكه.

أما الله سبحانه وتعالى فالكل في قدرته سواء، وليس هناك سهل وأسهل، وإنما كله على الله هين.

قال تبارك وتعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:٥] إلى آخر الآية، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٩] وقال تبارك وتعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:٥١].

وقوله: (فلولا) في قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} حرف تحضيض، ومعناه الطلب بحض وشدة، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار على التصديق بالبعث لظهور برهانه القاطع الذي هو خلقه لهم أولاً.