[الخضر في اعتقاد أهل السنة]
تنبيه أخير يتعلق بقصة الخضر: أورد فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة): قصة الخضر كما ثبت في الأحاديث التي تلوناها، ثم ذكر بعض الفوائد، فقال حفظه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب نبيه موسى الذي قال جواباً عن
السؤال
لا أعلم على الأرض أعلم مني، أنه كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فأراه الله جل وعلا أن هناك عبداً لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى، وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضر.
ثانيا: أن الخضر بعد أن تم اللقاء بينه وبين موسى أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله تعالى لا شيء، وأنهما لن ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء النهر.
ثالثا: أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعل، ولذلك فإن الخضر عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار لم يستنكر موسى شيئاً من ذلك؛ لأن هذا كله سائغ في الشريعة، فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز، فلو وكلت رجلاً على عمل لك ثم جاءت الوحوش أو قطاع طريق ليستولوا على المال كله، ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويترك بعضه لما كان ملوماً شرعاً، ولا يلام ممن وكله بل يستحسن فعله؛ لأنه حافظ له على قدر من المال، وما فعله الخضر بالنسبة للسفينة لا يعدو ذلك، فإنما أفسد السفينة فساداً جزئياً لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها، وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة؛ لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل من أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما، كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحياناً إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة، فما فعله الخضر بالنسبة للسفينة موافق للشرع الإلهي تماماً في كل دين وملة، وليس مخالفاً للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ عن أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده.
وأما قتل الغلام فهو كذلك سائغ في الشريعة، إذا كان هذا الغلام سيكون ظالماً لوالديه مجبراً لهما على الكفر، وكان هذا مما علمه الله مستقبلاً، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضاً سائغاً، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي -والشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا هو أصغر من الغلام، وكما قلنا: كلمة غلام تحتمل أيضاً أن تطلق على الكبير- يقول: والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعبدين من عباده صالحين، أراد الله جل وعلا أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين: الألم الأول: أنه ولدهما، وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء.
والثاني: أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان، وهذا عذاب آخر.
فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذاباً واحداً فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما، ولاشك أن صبرهما على فقده فيه خير لهما، فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقاً للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد وعليها سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك لما قيل لـ ابن عباس على الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ قال: إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل.
وهذا تعليق على شيء لا يقع، لأن الخضر كان يوحى إليه.
وأما مسألة بناء الجدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القرى والضيافة الواجبة؛ فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية والنصرانية واليهودية، ففي القرآن الكريم: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، وجاء في الإنجيل: (أحسنوا إلى من أساء إليكم، وباركوا لاعنيكم)، وقال تعالى فيما أوحاه لموسى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:٨٣]، وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة، ثم إن إحسانه هذا لغلامين لم يتأت منهما إساءة، وكان أبوهما رجلاً صالحاً، وهم في قرية ظالمة بخيلة، ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم، ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم.
فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر؟ وأي حقيقة أطلع عليها الخضر تخالف أوامر شريعة كان عليها موسى، بل ما فعله الخضر موافق تماماً لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئاً يخالف ما كان عليه الأنبياء صلوات الله عليهم، فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها، وباختصار لم يفعل الخضر شيئاً مخالفاً لشريعة موسى، فافهم هذا جيداً وتمسك به.
رابعاً: وجود الخضر عليه السلام على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمراً سائغاً وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولاً إلى بني إسرائيل فقط ولم يكن رسولاً للعالمين، حتى المسيح عليه السلام إنما كان كما ينقل عنه في التوراة: (لم أبعث لخراف بيت إسرائيل الضالة).
إذاً: التبشير بالنصرانية الذي سمي تبشيراً بعد المسيح عليه السلام والذي اخترعه بولس من محدثات النصرانية، لكن المسيح أرسل إلى بني إسرائيل فقط، وكتبهم تدل على ذلك، فنشر النصرانية بهذه الطريقة مما أحدث في النصرانية بعد رفع المسيح عليه السلام.
ولما سلم موسى عليه السلام على الخضر قال الخضر: (وأنى بأرضك السلام، قال له موسى: أنا موسى، قال الخضر: موسى بني إسرائيل، يعني: موسى الذي أرسل خاصة إلى بني إسرائيل؟ قال: نعم)، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز شرعاً أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته، وهذا مهم جداً في إبطال ضلالات الصوفية، فهم يريدون أن يقولوا: نحن عندنا العلم اللدني، ولنا طريقة غير طريقتكم، فهم يجوزون أن يكون هناك طريق إلى الجنة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم غير طريقه، ويقولون: أنتم لكم طريقة العلم الظاهر، ونحن عندنا العلم اللدني، ويستدلون بقوله: ((وعلمناه من لدنه علماً))، فمن سوغ هذا يعتبر كافراً خارجاً من ملة الإسلام، أي أن من يعتقد أن هناك طريقة للنجاة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم يخالف بها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كافر خارج من ملة الإسلام.
وقد يقول قائل: كيف وجدت معاً شريعة موسى وشريعة الخضر؟ نقول: هذا كان في زمانهم سائغاً، وكان قبل بعثة محمد عليه السلام، ويمكن أن يرسل نبي للهنود الحمر في أمريكا، ونبي أرسل لمنطقة في آسيا، وفي جنوب أفريقيا؛ لأن الله قال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:٢٤]، فهذا كان سائغاً، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فلم يعد هذا محتملاً، لأنه عليه الصلاة والسلام رسول للعالمين، فلا يسع الخضر أو غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه، ولذلك فلا وجود بتاتاً للخضر أو أمثاله بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
خامساً: لاشك أن ما فعله الخضر عن وحي حقيقي من الله، وليس عن مجرد خيال أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، يعني: أنه لم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي، ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا وحي بعده.
أي: قد يأتي دجال من ضلال الصوفية ويقول: (ما فعلته عن أمري)، وإذا رأيت شيخك يفعل كذا وكذا فلا تعترض عليه، بحجة الالتزام بقصة موسى والخضر؟ نقول: هل هناك وحي بعد محمد عليه السلام؟ لا.
فقد انقطع الوحي بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى شيئاً من ذلك فقد كفر؛ لأنه خالف قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:٤٠]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وختم بي النبيون فلا نبي بعدي).
ثم يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله: من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر عليه السلام، والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة، ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئاً مختلفاً تماماً، فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه ولي وليس بنبي، وأنه موجود يتصل بهم، ويأخذون منه من العلم اللدني، وأشياء تخالف ما عليه شريعة محمد؛ وهذا فيه فتح باب عظيم لإفساد دين الإسلام.
وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما كان الخضر -وهو ولي فقط في زعمهم- أعلم من موسى، فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام عالم بالشريعة الظاهرة فقط والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة، وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق، ويأخذ لهم الع