[من لطائف تحدي الكفار في الآيتين]
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هاتين الآيتين لطائف: الأولى: قيل: تحدوا أولاً بعشر سور فقال هنا: ((قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)) فلما عجزوا تحدوا بسورة فقال في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣]، وذهب المبرد إلى أنه تحداهم أولاً بسورة ثم تحداهم بعشر سور.
قوله في سورة البقرة: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي: من مثله في البلاغة والإعجاز والبيان وما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وغيرها.
وهي تسعة أشياء يتضمنها القرآن الكريم نظمها بعضهم بقوله: ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك، فلما وقع تعنتهم واستهزاؤهم واقتراحهم آيات غير القرآن لزعمهم أنه مفترى، فيناسبه التكثير وهو التحدي بعشر سور، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله، ألستم تقولون: إنه مفترى؟ إذاً ائتوا بعشر سور مثله مفتريات، فمن ثم ناسب أن يكون التحدي بعشر سور.
اللطيفة الثانية: قوله عز وجل بعد ذلك: ((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فإن ضمير (لكم) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع هنا للتعظيم كما في قول من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم.
القول الثاني: يكون الضمير عائداً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين؛ لأن المؤمنين هم تبع للنبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدي.
وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم، بل يكونوا معه لمعارضة المعارضين.
إن التحاق المؤمنين والتصاقهم به صلى الله عليه وسلم لا يكون فقط بالنصرة بالسيف وبالجهاد، وإنما يكون في الانتصار لدينه ولمعجزته التي هي القرآن، وذلك بدوام تحدي المشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم.
وفي هذا أيضاً إرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان بأن القرآن من عند الله، وأنه معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: ((فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا)) فدل على أن التحدي والصمود بهذا التحدي يفيد زيادة العلم وزيادة اليقين.
وقوله: ((فاعلموا أنما أنزل بعلم الله)) هذا العلم ليس مستأنفاً، لكنه ترسيخ للعلم الموجود في قلوبهم.
القول الثالث: أن الخطاب هنا للمشركين بمعنى: فإن لم يستجب لكم من استعنتم به من دون الله، وهم المذكورون في قوله: ((وادعوا من استطعتم من دون الله))، من الجن والإنس، في افتراء قرآن مثل هذا القرآن أو عشر سور مثله.
((فإلم يستجيبوا)) أي: هؤلاء الذين دعوتموهم من الجن والإنس ((فاعلموا)) أي: فحقكم أن تعلموا حينئذ عجزكم وعجز هؤلاء الذين لم يستجيبوا لكم ولم يستطيعوا قبول التحدي، وحقكم أن تعلموا الآن أن القرآن أنزل فعلاً من عند الله، وأن الحجة قامت عليكم.