للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)]

قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف:٢٦]، لفظة: (إن) في هذه الآية الكريمة فيها ثلاثة أوجه، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: يدل استقراء القرآن على أن واحداً منها هو الحق دون الاثنين الآخرين.

قال بعض العلماء: (إن) ظرفية، لكن الجواب محذوف، والتقدير (ولقد مكناكم فيما إن مكناكم فيه)، كأنها: لو مكناكم فيه لطغيتم وبغيتم، هذا هو القول الأول، وهو: أن شرطية، وجوابها مضمر محذوف، والتقدير: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:٢٦].

القول الثاني: قوله: (إن مكناكم فيه) (إن) زائدة بعد ما الموصولة، حملاً لما الموصولة على ما النافية؛ لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة (إن) كما هو معلوم، كما قال الشاعر: ما إن رأيت ولا سمعت به.

وتقدير الكلام على القول الثاني: (ولقد مكناهم فيما مكانكم فيه)، ومنه قول الأخفش: يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب يعني: يرجي المرء الشيء الذي لا يراه، فـ (إن) هنا زائدة، يؤمل المرء ما إن لا يراه، يعني: الشيء الذي لا يراه، وتعرض دون أدناه الخطوب: وتأتي الخطوب والأخبار تحول وتقطع عن أقرب أمل يؤمله.

وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما، إذاً: القول بأن إن شرطية، أو زائدة كليهما مرجوح.

أما القول الثالث -وهو الصواب إن شاء الله تعالى- فهو: أن لفظة: (إن) نافية بعد ما الموصولة، أي: (ولقد مكناكم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام وكثرة الأموال والأولاد والعدد)، وإنما قلنا: إن القرآن يشهد لهذا القول؛ لكثرة الآيات الدالة عليه، فإن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشاً وقوة، وأكثر منهم عدداً وأموالاً وأولاداً، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله؛ ليخافوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم الله بسببه؛ كقوله تعالى في سورة المؤمن: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر:٨٢].

وقال أيضاً في نفس السورة: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [غافر:٢١].

وقال في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:٩].

وقال تعالى في سورة الزخرف: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:٨].

إذاً: الراجح: أن (إن) هنا نافية.

وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:٢٦] قال الطبري: أي: جعلنا لهم سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصاراً يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم.

وسبق أن تكلمنا في سبب إفراد السمع دون الأبصار والأفئدة في جميع آيات القرآن الكريم، وذكرنا بأن سبب ذلك أنها أتت بلفظ المصدر وهو (السمع).