[تفسير قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر)]
قال تبارك وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:١٩]، روى العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد، أي: نحن نعمل أعمالاً صالحة خير من الإيمان الذي تدعوننا إليه، فنحن نعمر مساجد الله ونسقي الحجيج، فكانوا يفخرون بالحرم ويتعالون على الناس بخدمة الحجاج، ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، وكانوا يزعمون أنهم أولياء بيت الله، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:٣٤]، فخير الله سبحانه وتعالى الإيمان والجهاد مع رسوله على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وفضل الله سبحانه وتعالى هذا على ذاك، فقال: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ))، أجعلتم أيها المشركون.
((سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))، فبين عز وجل أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، ولا تغني عنهم عمارتهم شيئاً، فالكافر قد يعمل أعمالاً حسنة لكن مع عدم الإيمان لا يمكن أن تنفعه في الآخرة أبداً.
فشرط العمل الصالح الذي ينتفع به في الآخرة: أن يكون صاحبه وفاعله مؤمناً، هذا أولاً.
ثانياً: أن يكون مخلصاً لله، لا مرائياً.
ثالثاً: أن يكون موافقاً لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والسقي هو الموضع الذي يعد فيه الشراب في المواسم وغيرها، وسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله تعالى عنه في الجاهلية والإسلام.
روى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، أي: بإسلامي وإعماري للمسجد الحرام أكون حزت الخير كله، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلته، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى آخر الآية}، وعلى هذا يكون الخطاب هنا للمؤمنين حينما اختلفوا في ذلك، كما في صحيح مسلم.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه، ولفظه: أن رجلاً قال: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام إلى آخره.
فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين الذين كانوا يؤثرون السقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية الثابتة عن ابن عباس تنافيه، لأنها تفيد أن هذا كان في حق المشركين، ومما يؤيد أنها نزلت للمفاصلة بين مؤمنين بالله وغير مؤمنين -كما هي رواية ابن عباس - قوله: (كمن آمن بالله)، فلو كان الفريقان مسلمين لما قال ذلك؛ لأن كليهما قد آمن.
هذا أولاً.
ثانياً: وصفهم بالظالم لأجل هذه التسوية المذكورة، ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))، مما يؤيد رواية ابن عباس.
يقول القاسمي -مبيناً أنه لا منافاة بين ما رواه ابن عباس، ولا بين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير -: حديث النعمان يظهر أنها نزلت في اختصام المسلمين في المفاضلة بين الأمور المذكورة، ورواية ابن عباس تدل على أنها في المخاصمة بين المشركين والمسلمين.
وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وأن الآية أول ما نزلت نزلت في المخاصمة بين المشركين والمسلمين، حينما فضل المشركون سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام على الإيمان بالرسول عليه السلام، والجهاد في سبيل الله عز وجل.
وقوله تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ))، هل المقصود المفاضلة هنا بين السقاية والعمارة -وهما مصدران- وبين من آمن، أم هناك تقدير؟ هناك محذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، (كمن آمن بالله واليوم الآخر)، ومثله ما جاء في سورة القتال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد:١٥]، فإما أن نقدر: مثل أهل الجنة كمثل أهل النار، أو نقدر: حال أهل الجنة كحال من هو خالد في النار.
كذلك هنا في هذه الآية الكريمة: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ)) المقصود: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر؟ أو أجعلتم من سقى الحاج كمن آمن بالله؟ فيقول هنا: لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلابد من تقدير مضاف في أحد الجانبين، أي: أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله، ويؤيده قراءة من قرأ: (أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو أجعلتموهما كإيمان من آمن.