[تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)]
ثم بين تعالى كفر طائفة أخرى منهم فقال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) أي: أحد ثلاثة آلهة.
بمعنى أنه واحد منها، وهم: الله، ومريم، وعيسى.
قال بعضهم: كانت فرقة منهم تسمى اليعقوبية تقول: الآلهة ثلاثة: الأب، والابن، ومريم.
وجاء في كتاب (علم اليقين) أن فرقة منهم تسمى المريميين يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان، قال: وكذلك البربراميون وغيرهم، فهذا القول محكي عن فرق من فرقهم.
وأيضاً كان من نصارى نجران من يقول بهذا، أن مريم من الآلهة الثلاث.
أو المعنى: أحد ثلاثة أقانيم، كما اشتهر عنهم، فهو عندهم واحد من ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة أقانيم، أي أنهم جوهر واحد وهم ثلاثة أقانيم، أي: الأب والابن وروح القدس كما زعموا.
وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد، كما تقدم عنهم في قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء:١٧١].
قال الرازي رحمه الله: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحداً، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى.
وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا، وهي شهيرة متداولة، والحمد لله.
ثم يقول تعالى: ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ)) يعني: في نص الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)) لا يتعدد أفراداً ولا أجزاءً.
((وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ)) يعني: من هذا الافتراء والكذب بعد ظهور الدلالة القطعية متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماته ((لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) يعني: في الآخرة من عذاب الحريق والأغلال والنكال.
ولم يقل تبارك وتعالى: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنهم عذاب أليم) لم يقل ذلك، وإنما قال: (ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة، وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر بقوله: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا)) ثم هنا -أيضاً- كرر هذه الشهادة عليهم بأنهم كفار، فقال عز وجل: ((وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).
وفي البيان فائدة أخرى، وهي الإعلام في تفسير الذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.