[قوة عفة يوسف عليه السلام وحفظ الله له]
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت لـ ابن القيم في الجواب الكافي في صبر يوسف وعفته مع الدواعي من وجوه.
وهذا بلا شك من أعظم نماذج العفة وحبس النفس عما حرم الله سبحانه وتعالى، فقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد.
والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك من وجوه: أحدها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً بل يحمد كما في كتاب (الزهد) للإمام أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن).
الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشباب وحدته أقوى.
الثالث: أنه كان عزباً ليس له زوجة ولا سرية تكسر ثورة الشهوة.
الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه.
الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحباً، كما قال الشاعر: وزادني كلفاً في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا فطباع الناس مختلفة في ذلك.
السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد؛ فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
التاسع: أنه لا يخشى أن تنم هي عليه ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء.
العاشر: أنه كان مملوكاً لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه، وكان الأُنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد، تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا.
الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:٣٣].
الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: ((أعرض عن هذا)) وللمرأة: ((استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)) وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع.
وهذا لم يظهر منه غيرة.
ومع هذه الدواعي آثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:٣٣] وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه.
وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة.
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.