للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد)]

قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:٣].

قوله: (لَمْ يَلِدْ)، ومثله قوله تعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:١١١]، وهذه الآية هي آخر آية في سورة الإسراء، وتسمى آية العزة.

إن نفي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة؛ لأنه يمكن أن يتخذ الشخص ولداً بطريقة غير طريقة التناسل المعروفة، وذلك عن طريق التبني مثلاً، ففي قصة يوسف عليه السلام يقوله سبحانه وتعالى عن عزيز مصر: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:٢١].

إذاً: فيمكن أن يُتخذ الولد عن طريق الإلحاق، أو عن طريق التبني، فيكون في هذه السورة نفي أخف.

فقوله: (لم يلد) أخف من قوله: (ولم يتخذ ولداً)، ففي هذه السورة نفي أخف.

فقوله: (ولم يتخذ ولداً) نفي لاتخاذ الولد مطلقاً بالنسب وغيره.

فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة التي هي سورة الإخلاص والتي تعدل ثلث القرآن؛ لأن هذه السورة مختصة بحق الله تبارك وتعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية ونفي الولادة والولد ونفي الكفؤ، وكلها صفات انفرد الله سبحانه وتعالى بها، ولذلك جاء في هذه السورة (سورة الإخلاص) النص الصريح بعدم الولادة في قوله: (لم يلد) وأنه سبحانه وتعالى (لم يلد ولم يولد)، فهي أخص من تلك، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعاً بدون شك ولا نزاع، ولم يؤثر فيها أي خلاف.

وهذه الحقيقة ليس فيها شك على الإطلاق، وليس فيها أدنى خلاف بين من ينتسب إلى الإسلام، ومن قال بخلاف ذلك فليس بمسلم، بل يصير كافراً.

إذاً: فقد سلم جميع المسلمين بهذه الحقيقة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٣ - ٤]، ولكن غير المسلمين لم يسلموا بهذه الحقيقة.

فاليهود قالوا: عزير ابن الله، وهذه صورة من صور الشرك، ولهم صور أخرى في الشرك كتشبيه الله بخلقه، وهذا باب آخر، فإن كلامنا الآن في نفي الوالدية لله سبحانه وتعالى، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، فاتفقوا على ادعاء الولد لله، ولم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود، أي: أن له أبوين.

وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه، وهذه السورة وهي المختصة بصفات الله لم يأتِ فيها السليم عن المانع من اتخاذ الله للولد، ومنه كونه سبحانه وتعالى لم يولد.

يقول الشيخ عطية سالم: جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلاً - أي: بأن الله لم يلد ولم يولد- مع الإشعار بالدليل العقلي وذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة:١١٦]، فهذا تنزيه لله؛ لأن هذا شتم لله كما جاء في الحديث القدسي: (يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني) أي: أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى الولد.

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:١١٦ - ١١٧].

فهذا نص صريح فيما قالوه: اتخذ الله ولداً، وهو أيضاً نص صريح في تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يقولون.

ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم فقال: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) ففيه بيان المانع عقلاً من اتخاذ الولد بما يُلزم الخصم، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون باراً بوالده، وأن ينتفع الوالد بولده كما جاء في قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٤٦]، أو يكون الولد وارثاً لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٥ - ٦].

أما الله سبحانه وتعالى فهو حي باقٍ، يَرث ولا يُورث كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:١٨٠].

إذاً: فكل ما في السموات والأرض في قنوت وامتثال طوعاً أو كرهاً لله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٩٢ - ٩٣]، إذاًَ: فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى الولد؛ لغناه عنه.

ثم بيّن سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع فقال: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:١١٧]، وهذا واضح في نفي الولد عن الله عز وجل.

وقد تمدّح سبحانه في قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:١١١] أي: الله أكبر كبيراً.

وأما أنه لم يولد فلم يدع أحد عليه ذلك؛ لأنه ممتنع عقلاً بدليل الممانعة المعروف، فلو توقف وجود الله سبحانه وتعالى على أن يولد لكان محتاجاً في وجوده إلى من يلده، ثم يكون من يلده بحاجة إلى والد وهكذا، وهذا يسمى بالتسلسل أو الدور، وهو من الأمور المستحيلة.

وأورد بعض المفسرين سؤالاً في هذه الآية، وهو: لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة؟ فقوله: (لم يلد) نفي للولد.

وقوله: (ولم يولد) نفي للولادة.

والأصل في المشاهدة أن الإنسان يولد أولاً ثم يلد بعد ذلك.

و

الجواب

أن هذا من باب تقديم الأهم؛ لأنه رد على النصارى في قولهم: عيسى ابن الله، وعلى اليهود في قولهم: عزير ابن الله، وعلى المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود لأحد، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى كما قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:٥]، وقال عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٨٨ - ٩٣].

فمع أن أحداً لم يدع لله سبحانه وتعالى الولادة جاء القرآن بنفي كلا الاحتمالين؛ لتسليم النفي والتنزيه كما في حديث البحر لما سئل الرسول عليه السلام عن الوضوء بماء البحر فقيل له: (إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).

فلأن الشيء الذي يحتمل أن يسأل عن مائه، يحتمل -أيضاً- الاشتباه في حكم ميتته، فهذا جواب للسائل بأكثر مما سأل عنه.