للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)]

قال تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:٢] يعني: أقسم بهذا البلد وأنت في هذا البلد، فالقسم مقيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم حالاً بهذا البلد، وفيه عناية بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله أقسم بالبلد لأجل وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وفيه الإشارة إلى عدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً بهمهم بإخراج من هو حقيق بالبلد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس أن يقيم في بلد الله الحرام، وشرف هذا البلد يتم بحلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فمثل هذا حقه أن يوقر وأن يؤمن به وأن يتبع وأن يصدق، لا أن يطرد ويخرج من هذا البلد.

قال الشهاب: والحل صفة أو مصدر بمعنى: الحال، ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة.

إذاً: قوله تعالى: ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) أي: وأنت حال مقيم موجود في هذا البلد، وقيل معناه: وأنت يستحل فيه حرمتك، ويتعرض لأذيتك، ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم؛ لأنه لا يستحل فيه الحمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام عليه الصلاة والسلام! وقيل: معناه ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) به في المستقبل، أي: سيحل له القتال فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرمه الله عز وجل، وإن مكة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار) يعني: ساعة الفتح، فعندما فتحها أحل الله له أن يفعل بأعدائه ما يشاء، ثم قال: (فإن ترخص أحد بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لك)؛ فلذلك فإن مكة البلد الحرام لا يجوز لأحد أن يستحل القتال فيها بحال من الأحوال.

وهذه السورة مكية بإجماع المفسرين، وسورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:١ - ٢] إلى آخرها هي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدل على أن في هذه الآية إخباراً بشيء لم يكن قد وقع، فقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: سوف يأتي وقت تحل لك فيه مكة، وذلك ساعة من النهار كما حصل في فتح مكة، ثم عادت حرمتها بعد الفتح كما كانت قبل الفتح.

فهذه الآية إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يقتل فيها ويأسر، مع أنها ما أحلت لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده، ففيه تسلية له ووعد بنصره وإهلاك عدوه.

والحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، قال بعض المفسرين: هذا فيه بعد، لاسيما الوجه الأخير، فالتفسير الأول أولى، يعني: وأنت حال في هذا البلد، أي: أقسم بهذا البلد وأنت حال فيها، وفي ذلك زيادة في شرفها لوجودك وحلولك فيها.

قال بعضهم: وإنما كان الأول أولى لتشريفه صلى الله عليه وسلم، بجعل حلوله به مناطاً لأعوانه، فهذا تشريف لمكة حتى أقسم الله بها؛ وإنما زاد شرفها لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب بذكر بعض مواد المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وأنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله ما لم يكابده داع قبله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذا القسم: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) جوابه في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤]، فذكر هذا القسم بالبلد مع حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تحقيق لمضمون الجواب، وهو أن الإنسان بالفعل خلق في كبد، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كابد من المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ما لم يكابده داع قبله صلوات الله عليه وسلامه.