[تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)]
قال الله تبارك وتعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:١٨]، هذا كقوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:٥٦ - ٥٧] و (الآزفة) اسم من أسماء يوم القيامة، وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:١]، وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:١]، وقال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:١].
إذاً: فالمقصود من قوله تبارك وتعالى: (فقد جاء أشراطها) بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهذه -كما ذكرنا في أول تفسيرها- أنها مدنية، فبعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ونزول الوحي عليه أحد أشراط الساعة الكبرى، فمنذ ذلك الوقت وإلى أن يشاء الله والأشراط والآيات تتوالى،: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:١]، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:١]، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:١]، فكثير من الناس ينتظرون بهذا الكلام قرب قيام الساعة، وقد حصل أكثر من مرة بعض الحوادث، وكلما حصلت حادثة حاول الناس أن يلصقوها بقرب وشيك لقيام الساعة، فهناك أحداث مرتبة لها ترتيب زمني معين، فلا تأتي الساعة إلا بعد أن تحصل هذه الأشياء وخاصة العلامات الكبرى، وبعض الناس يستعجلون في تفسير بعض الحوادث فيحصل نوع من الكلام بالهوى وبدون علم، فلما وقعت حرب الخليج مثلاً يقول بعضهم: هذه هي الملحمة المذكورة، فكيف تكون ملحمة ولم يحصل قبلها شيء؟! ويقولون: نحن الآن أصبحنا في القرن الخامس عشر، وقد مرت سنوات من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وقت اقتراب الساعة! وقد كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً والشمس في الأفق على عشش المدينة، ولم يبق إلا الشيء اليسير في الأفق، فقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)، فانظر هذه الدقائق المعدودات قبل غروب الشمس، فالنسبة فيه ما بقي من الدنيا إلى ما مضى منها كالنسبة بين هذه الدقائق في آخر اليوم إلى ما مضى من هذا اليوم القريب.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً؟! فقال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء) رواه البخاري.
إذاً: فاقتراب الساعة أمر نسبي، والإنسان لا ينشغل كثيراً بموضوع اقتراب الساعة كما حصل من قبل؛ ومن طبيعة الإنسان أنه دائماً شغوف لمحاولة استطلاع المجهول، فهذه فطرة الإنسان، وقد أشبع الإسلام هذه الفطرة والغريزة في الإنسان، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه أوحى إلى نبيه كثيراً جداً من أخبار الغيب، فهم يسمونه المغيب، ونحن نسميه الغيب، وأشبعت هذه الغريزة عن طريق الأخبار التي أتت في القرآن والسنة تخبرنا عن كثير جداً من المغيبات، سواء فيما مضى من أحداث هذا الكون والخلق، أو فيما سيأتي في أواخر الزمان، فيحصل بعد ذلك ما يحصل من تفاصيل يوم القيامة مما يكون في الجنة، ومما يكون في النار، وصفة أحوال أهلها إلى غير ذلك، فقد استجاب القرآن الكريم لهذه الفطرة في الإنسان -وهي غريزة حب الاستطلاع والتطلع إلى الغيب- وذلك بما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يستطيل الوقت فمن ثم يحاولون أن يصدقوا بعض الأخبار الضعيفة.
وبعضهم لا يستحي عندما يكتب من أن يقول: أعرف كذا وكذا في الكتب المقدسة!! ويقصد بالكتب المقدسة التوراة والإنجيل! فهل يجوز لمسلم أن يصف كتاب اليهود والنصارى بأنه كتاب مقدس كما يسمونه هم؟! إن كان ولابد فتقول: كتاب مقدس عندهم، وأما عندنا فليس مقدساً، ونحن نؤمن بالإنجيل والتوارة وجميع الكتب التي أوحاها الله، لكنها تلك الكتب التي لم تحرف ولم تبدل ولم تغير، وأما وضع المصداقية لهذه الكتب المحرفة، والتي فيها الكذب على الله وعلى أنبياء الله عز وجل، وفيها التحريف، وأنها مصادر علمية معتمدة وموثقة فهذا غير صحيح، فلا يوجد سند على الإطلاق بيننا وبين أهل الكتاب، إن الله تعالى قد آتانا هذا القرآن، فكيف نعرض عنه في غمرة العواطف واستعجال يوم القيامة؟! بأننا لو قلنا: إن فلاناً هو المقصود ففيه شرك؛ لأنك تخبر بالأخبار قبل أن تقع، فعندنا مئات من النبوءات الصادقة الثابتة قطعاً وقد حصل منها كثير وسيحصل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى.
إذاً: فالانسياق وراء هذه الغريزة -غريزة التطلع لأحداث اليوم الآخر واقتراب قيام الساعة- يتعب النفس، فهذه أمور كونية قدرية سوف تقع لا محالة كما أخبر الله عز وجل، وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فأنت مسئول إذا حصلت كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن تجزم بذلك، وأما قبل حصولها فلا تجزم، لكن يكفيك أن تعرف قطعاً وبلا شك أن ساعتك الخاصة بك قد اقترب، فهناك ساعتان للمرء: الساعة الأولى: وهي ساعة انتهاء عمر الدنيا، ثم يكون القيام من القبور، فالقيامة عبارة عن انتهاء الدنيا، والانتقال إلى الآخرة، فهذا في حق الدنيا، فتنتهي الدنيا بقيام القيامة، فهذا حد فاصل بين الدنيا والآخرة.
والساعة الثانية: هي الموت، والموت قريب في كل شخص منا، وهو عبارة عن قيامة وساعة؛ لأنك تنتقل من الدنيا إلى مقدمات الآخرة في الحياة البرزخية، وهناك ينقطع عملك، وتواجه حسابك.
إذاً: فلكل إنسان قيامة، وقد قال بعض السلف: من مات فقد قامت قيامته، فعليك أن تنشغل بيوم القيامة الخاصة بك؛ لأنك قطعاً ستسأل عنه، لذا فإنه يجب عليك أن تستعد له، وأما أن نستسلم لما ذكرناه سابقاً كما حصل مراراً أن بعض الناس يعمل سيناريو وحواراً وإخراجاً لهذه القضية، وقضية خروج المهدي فهذا لا ينفع، وقد أشيع أن في مستهل القرن الخامس عشر ستقوم القيامة، فكان الناس خائفين من ذلك، وحاول أصحاب هذه الشائعات أن يخترعوا سيناريو معيناً من أجل أن يصدق أن هذا هو المهدي، وأننا لابد أن ننصره.
واسمع إلى هذه الكلمة من بعض الأئمة أظنه سفيان الثوري، فقد سئل عن المهدي فقال: إذا خرج فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه.
أي: حتى لو أن المهدي الحقيقي خرج فلا تكن منه في شيء، ولا علاقة لك به حتى يجتمع الناس عليه، فإذا اجتمع الناس من علماء وغيرهم عليه، واستقر الأمر أن هذا فعلاً هو المهدي الذي أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة يمكنك أن تنضم إليه.
فإذا سمعت بأحد يدعي أنه المهدي فتذكر هذه النصيحة من هذا الإمام الجليل: إذا خرج -أي: المهدي- فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه، فهذه إشارة عابرة عن آخر صيحة في عالم المؤلفات، فبعد أن ذقنا سنين من مئات الكتب التي اتصلت بالجن والعفاريت، ورأينا هذا التهريج والإسهال التأليفي في موضوع الجن، ونحن الآن في أحدث الصيحات الموجودة وهي موضوع قيام الساعة، ولعلنا عما قريب سنتكلم فيه بشيء من التفصيل.
فقوله تعالى: ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) فيه إشارة إلى قرب قيام الساعة بغتة فجأة، فالساعة قريبة لا شك فيها، قال تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:٥٦ - ٥٧] فهي قريبة، لكن اقترابها نسبي، وليس المراد أنها ستقوم الآن، فلا زال هناك كثير من أشراط الساعة الكبرى لم يأت كخروج المهدي، ونزول المسيح عليه السلام، ثم خروج المسيح الدجال إلى آخر تلك الأمارات العظمى، فليس هناك حرج على الإطلاق أن تقول: لن تقوم الساعة الآن، وقد رأينا كثيراً من الدجالين الذين يخرجون في هذا الزمان، فتسمع بعضهم يقول: يوم القيامة سيكون في يوم السبت القادم، فالإنسان روحه ليست في يده وإنما هي في يد غيره وهو الله سبحانه وتعالى، يأخذها متى شاء، فكل واحد له يوم قيامة وهي ساعة موته.
فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام بأنه هناك ترتيباً معيناً أوحي إليه، فلن تقوم الساعة حتى يحصل كذا وكذا وكذا من الأمور المرتبة ترتيباً زمنياً.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة -يعني: من علامات الساعة الكبرى- لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين، وأقام به الحجة على العالمين، وقد أخبر صلوات الله وسلامه عليه بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وكذا قال الضحاك، قال القاسمي: وهو كما قال، ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والمسيح عليه السلام إذا نزل فإنه لم ينزل بشريعة جديدة، وإنما يحكم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وينزل المسيح -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- وقد أقام المسلمون صلاة الفجر، فيخرج المهدي إلى المسيح ليؤمهم في صلاة الفجر، فيأبى المسيح عليه السلام ويقول: إن بعضكم لبعض أئمة؛ تكرمة الله لهذه الأمة، فالمسيح عليه السلام يتجنب الشبهة؛ لأنه ربما إذ