العقول رشداً، فسابق إلى قبولها رجال حكماء، ونساء فاضلات، وصبيان لا زالوا على فطرة الله، وبقيت سائرة في شيء من الخفاء، وكفّار قريش لا يلقون لها بالاً، حتى أخذ - صلى الله عليه وسلم - يقرع بها الأسماع في المجامع، ويحذر من عبادة الأصنام، ويسفه أحلام من يعبدونها، فكان ذلك مثيراً لغيظ المشركين، وحافزاً لهم على مناوأة هذه الدعوة، والصدّ عن سبيلها، فوجدوا في أيديهم وسيلة هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسومونهم سوء العذاب، حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يُرهبوا غيرهم ممن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القيِّمة.
أما المسلمون، فمنهم من كانت له قوة من نحو عشيرة أو حلفاء يكفون عنه كل يد تمتد إليه باذى، ومنهم المستضعفون، وهؤلاء هم الذين وصلت إليهم أيدي المشركين، وبلغوا من تعذيبهم كلَّ مبلغ، ومن هؤلاء من يناله العذاب من أقرب الناس إليه نسباً؛ كخالد بن سعيد بن العاص؛ فإنه لما أظهر إسلامه، ضربه أبوه بمقرعة حتى كسرها على رأسه، وحلف أن لا ينفق عليه، فانقطع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يقاسيه أصحابه من البلاء، وليس في استطاعته يومئذ حمايتهم، أذن لهم في الهجرة إلى الحبشة، وقال:"إن بها ملكاً لا يُظلم الناس عنده، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً".
ولعلك تنظر في الدول المجاورة للأمة العربية يؤمئذ، فلا تجد فيها من يصلح أن يكون موضع هجرة لأهل دين سماوي جديد كالإسلام، أما الفرس، فدينهم المجوسية، والإسلام يحارب المجوسية كما يحارب عبادة الأوثان في البلاد العربية، وأما الروم، فلم يكن لملكهم يومئذ من ضبط