في الناس من يجمع علماً غزيراً، أو يروي أدباً واسعاً، وقد يؤلف فتعد مؤلفاته بالمئات أو الآلاف من الصفحات، ولكن لا نجد فيما ألف من مئات الصفحات وآلافها شيئاً زائداً عما كتبه الناس من قبله، ويسوغ لنا أن نسمي هذا العالم أو الأديب:"حافظاً"، أو "ناقلاً".
أما العالِم أو الأديب الذي يدرّس، فنسمع منه ما لم نكن قد سمعنا، ويؤلّف، فنقرأ له ما لم نكن قد قرأنا، فذلك ما يحق لنا أن نسميه: نابغة، أو عبقرياً.
فالنابغة أو العبقري هو الذي يحدث علماً أو فناً من فنون الأدب لم يكن شيئاً مذكورًا؛ كما صنع الخليل بن أحمد في علم مقاييس الشعر، أو ينقله من قلة إلى كثرة؛ كما صنع عبد القاهر الجرجاني في علم البلاغة، ودون هذه الدرجة درجات، وسموّ كعب العالم أو الأديب في العبقرية على قدر ما يأتي به من أفكار مبتكرة، أو ما يستطيعه من حل المسائل المعضلة.
أما ابتداع الرجل للعلم أساليب تجعل مأخذه أقرب، وتناوله أيسر، فليس بنبوغ في نفس العلم، وإنما هو نبوغ في صناعة التأليف فيه.
(١) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الحادي عشر، الصادر في شهر رمضان ١٣٥٧ هـ.