ومن مثل هذه النصوص تعلم أن أخذ الأمم الإسلامية بحكومة واحدة يقتضي توحيد قانونها السياسي أو القضائي، بل يوكل أمر كل شعب إلى أهل الحل والعقد منه، فهم الذين ينظرون فيما تقتضيه مصالحه، ولا يقطعون أمراً حتى يشهدهم من أوتوا العلم بأصول الشريعة؛ لئلا يخرجوا عن حدود مقاصدها.
* الاجتهاد في الشريعة وشرائطه:
ومن أجل ما لوحت إليه الشريعة؛ من بناء الأحكام على أساس رعاية المصالح، ذكر الفقهاء في شروط الحاكم أن يكون بالغاً رتبة الاجتهاد.
ومدار شرائط الاجتهاد على أمرين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة، وهذا يتحقق بمعرفة جملة القواعد التي نصبتها، والتفقه في قسم عظيم من الأبواب التي فصلت أحكامها، وقد بصر مجتهدو الصحابة - رضي الله عنهم - بهذه القواعد والأحكام من النظر في القرآن، وما يشهدون من سنّة الرسول- عليه الصلاة والسلام -, وتلقى عنهم التابعون ما استنبطوه من الفروع، وتعلموا منهم كيف انتزعوها من مآخذها، فازدادت القواعد وضوحاً، وتمهدت طرق الاستنباط، وتسنى للذين أوتوا العلم من بعدهم أن ينظروا في الحوادث، ويفصلوا لها أحكاماً تأخذ بمجامع المصالح، وتنطبق على ما تستدعيه طبيعة الزمان والمكان.
ثانيهما: القدرة على انتزاع الأحكام من دلائلها المبثوثة في الكتاب والسنّة، ولا سبيل للقدرة على الاستنباط إلا بمعرفة هذه الدلائل، وطريق إثباتها، وضروب دلالتها، وتفاوت مراتبها، ووجوه الترجيح عند تعارضها.
والتحقيق: أن الاجتهاد لا يتجزأ، فإن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها