أتى على العالم حين من الدهر وهو يتخبط في جهل وشقاء، ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء، حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم - صلوات الله عليه - بعزم لا يحوم عليه كَلال، وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض، فأخذ يضع مكان الباطل حقاً، ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة، وما لبثت الأمم أن تقلدت آداباً أصفى من كواكب الجوزاء، وتمتعت بسياسة يتجلى بها العدل في أصرح مظهر، وأحسن تقويم.
وضع الإسلام للسياسة نظاماً يقطع دابر الاستبداد، ولا يبقي للحيف في فصل القضايا، أو الخلل في إدارة الشؤون منفذاً، أوصى الرعاةَ بأن لا ينفردوا عن الرعية بالرأي في آية:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: ١٥٩]، وآية:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: ٣٨]، ثم التفت إلى الأمة، وعهد إليها بالرقابة عليهم، ومناقشتهم الحساب فيما لا تراه مطابقاً لشرط الاستقامة، فقال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: ١٠٤].
ولم يكن الأمراء الراشدون؛ احتراماً لهذا القانون الإِلهي، يكرهون
(١) مجلة "البدر" - الجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في منتصف جمادى الأولى ١٣٤٠ هـ - تونس.