ونسيئ الجوار، ويأكل القويُ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحزَمنا ما حَرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
فلما انتهى جعفر من هذا الخطاب، قال له النجاشي: هل عندك مما جاء به من الله شيء؟ فقرأعليه جعفر صدراً من سورة {كهيعص}[مريم: ١]، فخشع النجاشي لتلاوة القرآن (١)، وقال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة، ثم أقبل على عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وقال لهما: لا أسلِّمهم إليكما، ولا يُكادون.
وكذلك تكون عاقبة الحق متى وجد عقولاً تتلقاه في أوضح صورة، وألسنة تعرضه في أصدق عبارة.
* نصب عمرو لهم مكيدة عند النجاشي:
يبذل المبعوث في أمر جهده، وشملك للوصول إليه كل مسلك ممكن
(١) ذكر السهيلي في "الروض الأنف" قصة تدل على أن النجاشي يعرف اللغة العربية.