للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشرق، ويقيمون فيه الشهور والسنين، ثم يعودون إلى أوطانهم بما يتجدد من علم نافع، أو رأي راجح، أو استنباط بديع، وقلّما يمر الناظر على حياة عالم كبير من قدمائهم ولا يجد له رحلة. يرحل علماء الأندلس إلى الشرق، وريثما يملأ الرجل حقيبته من العلم، أو يبلغ في الاطلاع على البلاد ما استطاع، ينقلب إلى وطنه ليبث ما استفاد من علم، أو يحدّث بما شاهد من أحوال وآثار.

وكان هؤلاء الراحلون يؤثرون العود إلى أوطانهم على الإقامة بالشرق إلا قليلاً، أذكر منهم: ابن مالك، وأبا حيان، وأبا بكر الطرطوشي، وأبا القاسم الشاطبي الإمام في علم القراءات، فإن ابن مالك استوطن دمشق، والثلاثة بعده استوطنوا القاهرة إلى أن استلمتهم يد المنون.

وممن وردوا الشرق، فابتسم في وجوههم، ثم أبوا إلا أن يعودوا إلى وطنهم: القاسم بن محمد بن سيار، فقد لقي هذا الأستاذ في مصر حظوة بالغة، ومقاماً كريماً، وعزم-مع هذا- على الإياب إلى بلده بالأندلس، ولما قال له العلامة محمد بن عبد الحكم: أقم عندنا؛ فإنك تعتقد رياسة، ويحتاج الناس إليك، أجابه يقوله: "لابد من الوطن". قال القاسم بن سيار: "لابد من الوطن"، لأن مقاليد الأمور في وطنه بيد دولة وطنية، لا تنظر إلى من يعود إليها من الشرق بعين الريبة، فتعْجَلَ إلى نفيه من الأرض، أو تضرب عليه حصاراً من عيون الرقباء، وآذان المتجسسين.

* مكانة علماء الأندلس في العلوم الإسلامية:

كانت علوم الشريعة يوم فتحت الأندلس إنما هي القرآن يتلى، والحديث يروى، وبصائر عرفت روح الإسلام، واهتدت طرق الاستنباط، فكان من