في فطرة الإنسان قوّة يعقل بها طرق الصلاح والفساد، ويفقه بها الحق والباطل. ولكن هذه القوة العاقلة لا تستقلّ وحدها بتمييز المعروف من المنكر، وليس من شأنها أن تطلع على كل حقيقة، ولا أن تدبر أعمال البشر على نظام لا عوج فيه؛ فإنها- وإن بلغت في الإدراك أشُدها - قد تنبو عن الحق، ويعزب عنها وجه المصلحة، ولا تهتدي إلى عاقبة العمل؛ وربما ألقت على الحسنة نظرة عجلى، فتحسبها سيئة، وقد يتراءى لها الشر في شبهٍ من الخير، فتتلقاه بالقبول.
وقد تصدى رجال من أصحاب هذه القوى العاقلة للبحث في نشاة الخليقة، فكانت عاقبة بحثهم: أن خرّوا للأحجار أو الكواكب أو الحيوان سُجّداً. وتصدى آخرون لإنشاء نظُم اجتماعية، فوضعوا ما يذهب بالجماعة في غير طريق، ويكبو بها في خسار؛ وأمثلة هؤلاء مشهودة حديثاً، ومضروية في كتب التاريخ قديماً. وليس القانون الذي يسيغ المقاتلة الشخصية (المبارزة) إلا صنع نفس عريقة في الهمجية، وليس القانون الذي يساعد الفتيات على إراقة ماء الحياة والعزّة من وجوههن، والزهد في صيانة أعراضهن، إلا وليد عقل غمرته الغباوة، أو حفت به الشهوات من كل ناحية. وأراد ذو عقل كبير - وهو الحجّاج بن يوسف - معاقبة شخص على جريمة ارتكبها بعض ذوي قرابته، فدافعه بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام: ١٦٤]، فما كان إلا أن استمع للآية وارْعوى.