تقلبوا في أرقى البلاد علماً وحضارة، وابحثوا عن أسلم الأميين بها فطرة، وأذكاهم جَناناً، وأنفذهم بصيرة، وأطولهم تجارب، ثم اجلسوا إلى هذا الأمي ليالي وأياماً، تزنون أقواله بقسطاس الحكمة، وتعرضون آراءه على قانون المنطق الصحيح، ثم انظروا إلى ما سمعتموه من قول صائب، ورأي مقبول، وضعوه بجانب ما تسمعون من أقوال لاغية، وآراء زائفة، لاشك إنْ فعلتم ذلك عرفتم أن لنبوغ الأميين مجالاً ضيقاً، وحداً غير بعيد.
بل انظروا في نوابئ الرجال من أهل العلم، فإنكم تجدون الرجل منهم قد وهبه الله تعالى حظاً عظيماً من رجاحة العقل، وحكمة الرأي، ففاق أقرانه، وصار في عصره العلَم المشار إليه بالبنان، حتى إذا انقرض ذلك العصر، وأقبل على الناس عصر آخر، ظهر في هذا العصر نابغة يضاهي نابغة العصر السابق في تصرفه الفكري، وأتى بمثل ما أتى به من ثمر علمي.
أما محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان - مع هذه الأمية، والنشأة البعيدة من مواطن العلوم، ومجالس العلماء - ينظر إلى
(١) مجلة "الهداية الإسلامية"- الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول ١٣٥٤. محاضرة الإمام في احتفال جمعية الهداية الإسلامية بذكرى ميلاد المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول سنة ١٣٥٤.