خاض الغرب معركة استعماره للشرق في القرنين الماضيين مستعيناً بما كان يسود ظروف تلك المعركة من متناقضات. فالغرب كان قد أخذ يستنير بمعارفه المادية، ويقوى بآلاته الصناعية، وأنظمته المبتكرة، وأسلحته الجديدة. غير أن لجج الظلام كانت قد بدأت تغمره بنزعات الإلحاد والتحاسد، والجشع والبغي، والفراغ السياسي من الدافع الأعلى، كما يقول المؤرخ (ولز)، بينما الشرق كان قد أخذ ينحط بضعف حكوماته، وتخلفها وتقاطعها، وإن كانت شعوبه لم تزل يومئذ ممتازة ببقية كريمة من الأخلاق النبيلة؛ كالقناعة، والتراحم، والأمانة، والثقة، حتى لقد شهد (المسيو جومار) أحد مهندسي الحملة الفرنسية على مصر بأنه رأى بعينه الغلال وبضائع التجار تكدس على ساحل النيل في فرضة بولاق التي كان فيها جمرك القاهرة، فلم يكن يمسها أحد بسوء ليلاً ولا نهاراً، مع أنها متروكة في العراء بلا حراسة ولا خفراء.
فالاستعمار كان في القرنين الماضيين بغياً من القوة المادية على شعوب ذات فضائل وأخلاق، منتهزاً فرصة الضعف الذي دب إلى حكومات تلك الشعوب الطيبة الأعراق، الآمنة في أوطانها، السعيدة بقناعتها وأمانتها وتراحمها.
(١) مجلة "الأزهر" الجزء العاشر -المجلد الرابع والعشرون- غرة شوال ١٣٧٢ هـ - جوان حزيران ١٩٥٣ م.