لصاحبه بالحذق في الصناعة، وأنت تشعر بأنه عرض عليك الموهوم في حلية المعقول؛ كقول الطائي:
ولا يروعك إيماض القتير به (١) ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب
أخبر عن الشيب بأنه ابتسام الرأي والأدب اللذين هما محبوبان ومحترمان لكل أحد؛ ابتغاء أن تأنس العين لرؤيته، ولا تنظر إليه نظر الازدراء به، وليس هذا من قبيل التشبيه؛ إذ لم يكن للرأي والأدب ابتسام يعهده السامع حتى يقصد الشاعر إلى تشبيه الشيب به، بل أراد أن يخيل لك أن الشيب ابتسام في الواقع، ولهذا تجد في نفسك ما يناجيك بأن صورة هذا المعنى غير مطابقة للحق، وإن استحكم تأليفها، ودقَّ مأخذها.
ومنه ما يستملحه الذوق، ويسعه نظر المحقق، وتجد هذا في قول زهير:
لونال حيٌّ من الدنيابمكرمةٍ ... أفقَ السماء لنالت كفُّه الأفقا
فهذا البيت لم ينسج على منوال تشبيه أو مجاز، وليس لك أن تطرحه من حساب التخيلات المقبولة، ويلوغ كفّ الممدوح الأفق لا يتفق مع النظر الصحيح، غير أن تعليقه على حصوله لإنسان من قبل، وإيراده عقب حرف الشرط الدال على امتناعه، قد خلصه من زلة الكذب، وجعله في منعة من أن ينبذه العقل إلى القضايا الوهمية.
* فنون الخيال:
يتصرف الخيال في المواد التي يستخلصها من الحافظة على وجوه شتى، ولا يسع المقام استيعابها، وتقصّي آثارها فنلمَّ لك بمهماتها، وما يصلح أن
(١) القتير: أول ما يظهر من الشيب. "المعجم المدرسي".