والحقيقة أن هذا الشعر لم يكن بأدنى من منزلة الجاهليين في العلم والذكاء والعاطفة ولين العيش كما يقول المؤلف، ولم يكن بالمنزلة التي تقصر عنها قرائحهم، ولا تبلغها فصاحتهم كما يقول (مرغليوث)، بل هو الشعر الملائم لحالتهم من كل ناحية. وقد رد الأستاذ (أدور براونلش) على (مرغليوث) في هذا المعنى، وسنسوق وجوه رده عليه في غير هذا المقام.
* طبقة المستنيرين وطبقة العامة:
بعد أن احتاط المؤلف في وصف الجاهليين بالعلم والذكاء والعواطف والعيش اللين، ونبه القراء على أن هذا الوصف لا يقع على جميعهم، وأنهم كغيرهم من الأمم القديمة، وكثير من الأمم الحديثة ينقسمون إلى طبقتين:
قال في (ص ٢٠) مبيناً هاتين الطبقتين: "طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم، وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ".
أتى المؤلف في بيان الاستنارة على أربع مزايا: الثروة، والجاه، والذكاء، والعلم، وقد يقف القارئ في فهم الاستنارة ولا يدري: أهي هذه الأمور الأربعة؛ بحيث لا استنارة إلا لذي ثروة وجاه وذكاء وعلم؟ ومقتضى هذا: أن العالم الذكي إذا لم تكن له ثروة، نزل إلى طبقة العامة، وحُرم الدخول في طبقة المستنيربن، أم الاستنارة محصورة في هذه المزايا، فمن تجرد منها كان من طبقة العامة، ومن حاز قسطاً منها كان من طبقة المستنيرين؟ ومقتضى هذا التأويل: أن صاحب الثروة والجاه القائم عليها مستنير، ولو هوى به الجهل والغباوة إلى درك سحيق. والصواب: أن الاستنارة إنما هي