الذهن من كل ما قيل فيه، يقضي العجب من ذكاء منشئيه، وسعة خيالهم، وإقصائهم النظر في تأليف المعاني، والتصرف في فنون الكلام.
يبخس المؤلف قيمة الشعر الجاهلي، ويريد أن يجعله مثال الجهل والغباوة والخشونة، وهذا جرجي زيدان، وهو عربي لا يقل في تذوق الشعر عن هذا المؤلف، قد عرف كيف يستدل بهذا الشعر على أن العرب لم يكونوا أصحاب جهالة وهمجية، فقال في "تاريخ آداب اللغة العربية"(١): "قد يتبادر إلى الذهن أن أولئك البدو كانوا أهل جهالة وهمجية؛ لبعدهم عن المدن، وانقطاعهم للغزو والحرب، ولكن يظهر مما وصل إلينا من أخبارهم: أنهم كانوا كبار العقول، أهل ذكاء ونباهة، واختبار وحنكة، وأكثر معارفهم من ثمار قرائحهم، وهي تدل على صفاء أذهانهم، وصدق نظرهم في الطبيعة وأحوال الإنسان مما لا يقل عن نظر أعظم الفلاسفة، فإن قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: "رأيت المنايا خبط عشواء، إلى قوله:"وإن خالها تخفى على الناس تعلم" لا يقل شيئاً على أحكام أكابر الفلاسفة".
وإن كنت ترغب في أن تنظر إلى العاطفة كيف تتقلب بالأفكار والأذواق تقلّب الرياح بخفيف الزنة يقع في مهبّها، فهذا المؤلف يقول: إن الجاهليين أرقى عقولًا، وأوسع علماً، وأرق عاطفة، وألين عيشًا من أن يمثلهم هذا الشعر الجاهلي، وذلك الدكتور (مرغليوث) يرى أن هذا الشعر أحكم صنعة، وأعلى بلاغة من أن يقوله أولئك الرعاع؛ حيث قال في المقال المشار إليه آنفاً: "فهل من المعقول أن البدو الجهلاء غير المتمدنين يكون لهم شعر بهذه الدرجة من البلاغة والرقي؟! ".