وقال في (ص ١٢٩): "فما بالهم يصطنعون ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين، ولا يصطنعونها بالفياس إلى القدماء".
لا يزال الذين أوتوا رسوخاً في العلم يفحصون كل رواية، أو أي رأي تقع عليه أنظارهم، وهذا شأنهم في كل عصر، ولكن الرسوخ في العلم يدور على ما يتهيأ لطلاب العلم من حسن نظام التعليم، ومن الظروف المساعدة لهم على أن تكون هممهم كبيرة، وجدّهم متواصلاً.
ننظر إلى ماضي الشرق، فنرى العصور والبيئات التي يجري فيها التعليم على طريقة التحقيق، كانت تنبت رجالاً مجتهدين في كل علم تناله أيديهم، وعلوم الشريعة والاجتماع واللغة والفلسفة في هذا الاجتهاد سواء، فالمئة الثامنة -مثلاً- أخرجت كثيراً ممن اصطنعوا ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى القدماء. ثم بليت الحالة العلمية بخمول، ولم تجد أيدياً قوية تنهض بها إلى أن يتنافس في مثلها المتنافسون، فلا عجب إذا لم بقص علينا التاريخ بعد ذلك القرن أسماء رجال كثير يصطنعون ملكاتهم الناقدة في صورة بارزة.
فاصطناع الملكات الناقدة يتبع غزارة العلم، وانتظام أسلوب التعليم، فكل من غاص في علم، ومشى في مباحثه على نظام، فلا بدّ من أن يصطنع ملكته الناقدة بالقياس إلى القدماء، وربما خرج من ناحية التعليم غير المنتظم رجال يتصرف في معلوماتهم الذكاء الفطري، فينظمها، ثم ينهض بهم إلى أن يضعوا كل رأي أو رواية تحت النظر، ولا يقبلوا منها إلا ما ثبت على النقد والتمحيص.