كان للذين أوتوا العلم فيما سلف سلطة نافذة في القلوب، وجلالة تملأ الصدور، حتى أصبحت مكانتهم أعزّ منزلة تطمح إليها النفوس، وأشرف غاية تتسابق إليها الهمم، ولم يرتقوا إلى تلك المكانة الشامخة بمعرفة اصطلاحات العلوم، وفهم ما تنطوي عليه صحف من تقدمهم فقط، فإن هذا المقدار وحده لا يغني في إحراز مظهر تحفل به العقول الراجحة، وتتضاءل أمامه النفوس المتعاظمة. وإنما أدركوا ذلك المقام الذي يكتنفه الاحترام من كل جانب؛ لأنهم كانوا يؤدون وظيفتهم بحق، ويتحرون بهديهم وتعليمهم الخطة المرسومة على حكمة. وما أحكموا القيام بوظيفتهم، وغنموا- بعد رضا الله تعالى- لسانَ صدق يلهج بتمجيدهم، إلا لأنهم يتحلون بأربع مزايا:
أولاها: استقلال الفكر؛ فإن من يغوص في فهم حقائق الشريعة ببصيرة نقية، ونظر قائم بنفسه، لا يعجزه أن يبينها للناس في أسلوب ينهض بحجتها، ويكشف عن وجه حكمتها. وهذا مما يحفظ رونقها، ويرفع شأن القائمين على حمايتها، أما الذي يتلقى تعاليمها بمجرد المتابعة، فلا يأمن أن يبتلى ببارع في فن الجدل يكافحه بتخيلات وشُبه تزلّ به في حيرة، وتهبط به في هاوية خيبة وصَغار.