وبالغ بعض البيانيين في الرفع من شأنه حتى جعل تقديم الكلمة عن موضعها لصحة السجع أو الفاصلة من وجوه البلاغة، ونبه الباقلاني على عدم استقامة هذا الوجه بالنسبة إلى الكتاب الحكيم؛ لأن صرف الكلمة عن مرتبتها في النظم؛ لتوافق شيئاً من محاسن البديع، نوع من التصنع الذي عابه علماء الفصاحة على المولدين، ثم إن صحة السجع إنما هي عذر يقيمونه لرفع الملامة في مخالفة ما يقتضيه السياق، وإذا ساعدتك نفسك على الاعتذار به في سجع أو قافية من كلام البشر، فلا تسمح لك بتقريره في كتاب الله الذي لا يعجزه أن يضع كل كلمة في منزلتها التي يستدعيها حال المعنى مع سلامة الفاصلة.
وأدرك كثير من المحررين اليوم أن المرسَل أوسع مذهباً في البيان، فعدلوا إلى طريقته في خطاب الجمهور، إلا إذا ساعدهم الطبع على السجع بسهولة كغيره من محاسن البديع.
* إبداع العرب في التشبيه:
علم من صدر هذه المسامرة: أن الباعث على التشبيه أمر فطري، وهو قصور العبارة عن إيضاح المراد، لهذا لم يختص في أصل استعماله بالبلغاء من الناس، وتناولته الأطفال في حجور أمهاتهم، وأيضاً لم تتميز به لغة دون أخرى، بل فازت اللغات السافلة منه بنصيب؛ فإن بعض سكان أستراليا لا يوجد عندهم ما يؤدي معنى مستدير، فيقولون: مثل القمر، وجرى العرب في هذا المضمار إلى الغاية القصوى، ورموا في تشابيههم إلى أغراض أخرى وراء البيان والإيضاح، منها: القصد إلى مدح المشبه وتزيينه في عين السامع؛ لتنبسط نفسه إليه، وتتقوى رغبتها فيه حيث حوكي بصورة راقية في حقيقتها، أو حسنة