للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا سمعوا منادياً ينادي؛ ليحق الحق، ويبطل الباطل، كلّموه بألسنة السيوف.

ولما أبق الملك من حضانة الدين، وخفقت عليه راية الاستبداد، خالط الأفئدة رعب وأوجال كأنما مزجت بطينتها، فبعد أن كان راعي الغنم يفد من البادية، وعصاه على عاتقه، فيخاطب أمير المؤمنين بـ: يا أبا بكر، ويا عمر، ويا عثمان! ويتصرف معه في أساليب الخطاب بقرارة جأش، وطلاقة لسان، وسكينة في الأعضاء، أصبح سيد قومه يقف بين يدي أحد الكبراء في دولة الحجاج، فينتفض فؤاده رعباً، ويتلجلج لسانه رهبة، وترتعد فريصته وجلاً، يخشى أن يكون فريسة لبوادر الاستبداد.

ولا نجهل أن القرون السالفة تمخضت فولدت رجالاً تمتلئ أفئدتهم غيرة على الحق والعدالة، فصغرت في أعينهم أبهة الملك، وازدروا بما يكتنفها من أدوات الاستبداد، فجاهروا بالنصيحة المرّة، وخففوا من ويلات المنكر نصيباً وافراً؛ كالقاضي أبي الحسن منذر بن سعيد البلوطي المتوفى سنة ٣٥٥ هـ، وكنت تعرضت إلى نبذة من سيرته في مجلة "السعادة" (١) عدد ١٧، ومثل القاضي أبي بكر الطرطوشي صاحب كتاب "الحوادث والبدع"، ولكن هؤلاء الرجال لم يبلغوا النصاب الكافي لإصلاح شأن أمة عظيمة، وما كانوا إلا أمثلة نادرة يضربها الله لدعاة الإصلاح لعلهم يتذكرون.

* آثار الاستبداد:

إذا أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد، نزلت عن شامخ عزها لا محالة، وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء؛ إذ لا غنى للحكومة عن


(١) انظر كتاب: "السعادة العظمى" للإمام.