وإحضاري النصيحة، وأعينوني على أنفسكم بالطاعة". وكانوا يوسعون صدورهم للمقالات التي توجه إليهم على وجه النصيحة، والتعريض بخطأ الاجتهاد، وإن كانت حادة اللهجة، قارصة العبارة.
عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد - رضي الله عنهما -، وكان أميراً على "قنسرين"، ولم يجد عمر بداً من الاعتذار عن ذلك بمحضر ملأ من المسلمين؛ حذراً مما عسى أن يقدح في بعض الظنون، فقام وخطب خطبة في شأن العطاء، وألقى في آخرها بالمعذرة، فقال: "وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد؛ فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته منه، وأمّرت أبا عبيدة بن الجراح". فقام أبو عمر ابن حفص، وكان ابن عم لخالد، فقال: والله! ما اعتذرت يا عمر، ولقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال: وقطعت رحماً، وحسدت ابن العم. فقال عمر: "إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك". ولم يزد على أن التمس لمناقشته وجهاً، وردّها ردّاً ليناً، وأخيراً قدم خالد بن الوليد إلى عمر، وحصحص الحق أنه نقي الراحة، بريء العهدة مما ظن به، وبذلك كتب عمر إلى الأمصار.
ثم خلف من بعد أولئك خلف، عرفوا أن فطرة الدين وطبيعته لا تتحمل شهواتهم العريضة، وألفوا بلاط الملك فسيح الأرجاء، بعيدَ ما بين المناكب، ولكنه لا يساعفهم على أغراضهم وتتبع خطواتهم ما دامت أوصاله ملتحمة بالإدارة الدينية، ولم يهتدوا حيلة إلى فارق بينهما سوى أن يسدوا منافس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون دعاة الإصلاح، وابتكروا ضروباً من الخسف وأفانين من الإرهاق كانوا يهجمون بها على الناس هجوم الليل إذا يغشى،