لا يزال الذين ينظرون إلى ما أنزل الله بعيون حشوها التبصر، وقلوب ملؤها الاعتبار، يؤمنون بأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من الإرشاد والتهذيب إلا حثَّ عليها، ولا رذيلة أو مفسدة إلا صدَّ عن سبيلها، وبذلك كان المعظِّمون لشأنه، المقيمون لشعائره في أعلى طبقة من أدب النفس وتربيتها على محاسن الشيم وتمرينها على الأعمال النافعة، وهذا مما يعرفه الذين آمنوا، كما يعرفون أبناءهم، ولكن للهمم خمود وللعزائم فترة لا يتقيظ من موتتها إلا من استفزته صروف الحوادث، وأرته كيف ترقى أمة إلى مكانة العز، وتنحط أخرى إلى وهدة السقوط، ولا تفعل ذلك إلا بمن أدركت منه رمق حياة لم يزل نبضها خافقاً. أما من سكنت إحساساته حتى التحق عند أولي البصائر ببهيمة الأنعام فلا يحس لها وجبة ولا يسمع لها ركزاً.
وإن تعجب فعجب ما يتخيله بعض من رُبِّي في مهد الجمود، من أن هذا الدين القيم لم يرشد إخوانه إلا إلى العبادات المحضة، وإنه حجاب مسدول بينهم وبين المدنية، وروَّج هذا التخيل الزائف على البسطاء وقوفهم عند ظواهر آيات وأحاديث واردة في ذم متاع الحياة الدنيا، ولو اتسعت
(١) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور ١٣٢٢.