للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خطواتهم في التدبر لأبصروا ما هو التحقيق، وإيضاحه أن الشارع يفعل بالمكلف فعل الطبيب الرفيق إذا أصابت المريض علة بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجتها على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ليرجع إلى الاعتدال.

لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، قال عليه الصلاة والسلام: "إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا"، ولما لم يظهر ذلك منهم ولا مظنته، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: ٣٢]، ولما ذمَّ الدنيا ومتاعها، همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: ١٥] وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وقد كان المتعبدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها، فنفاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى المسلمين عنها فقال: "لا رهبانية في الإسلام"، ومن الآيات الشاهدة لهذا الغرض قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: ٧٧]، لما وقع الأمر بصرف المال إلى الآخرة في قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: ٧٧] بيَّن الواعظ بعد بقوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، قال مادح عمر بن عبد العزيز: