فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
وعلى نحو هذا جرى ذكر التجارة في معرض الحط من شأنها، حيث شغلت عن طاعة، في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا}[الجمعة: ١١] الآية، ولما فقد ذلك المعنى العارض ذكرت، ولم يهضم من جانبها شيء، كما في قوله تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}[النور: ٣٧]. فقد أثبت لهؤلاء الكمل أنهم تجار وباعة، ولكنها لم تشغلهم ضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية.
أما ما يقوله بعضهم من أنه نفى كونهم تجار أو باعة أصلاً، فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر، أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك، لكونها أغلب وقوعاً، وأوفق لذوي المروءات، ومما يزداد به هذا المقصد بياناً قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: ٣١]، فقد بين بهاته الآية أن الزينة من علائق العبادة، وأنها غير منافية، وأن العبادة تستدعي الإعراض عن اللذات الحسية المعتدلة، وبالجملة فإن الآيات التي تحث على العمل والكسب كثيرة قال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة: ١٠]. {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الجاثية: ١٢]. {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[المزمل: ٢٠].
فالحكيم الخبير من يقدِّر الوقت حق قدره، ولا يتخذه وعاء لأبخس الأشياء وأسخف الكلام، ويعلم أنه أجلُّ شيء يصان عن الإهمال والإضاعة،