لا يشتبه على ذي نظر قيم: أن الألفاظ - وإن حسن تاليفها، وتناسبت أوضاعها، وامتدت إلى غير نهاية - لا تزيد فائدتها عن ضبط الغرض القائم في النفس، وتمييزه عما سواه، ولا تكاد تؤدي الصور والمعاني، وتنقشها في نفس السامع بحالتها المرسومة عليها في ذهن المخبر بها، فإذا شاهد الرجل حادثة، أو أدرك بحاسة وجدانه معنى، وأراد حكايته وإفراغه بمثاله الحقيقي في ذهن السامع، حتى يصير إدراك المخاطب للمحكي، مطابقاً لإدراك الحاكي مطابقةَ النعل للنعل، لم يجد لذلك لساناً كافياً.
ولا يستطيع إنسان - وإن ملك الفصاحة تحت طي لسانه - أن يصف لك ذات شيء أبصره، فتتصوره على وجه يطابق صورته، إذا رأيته رأي العين، فيضطر إلى أن يفحص بخاطره فيما سبقت لك به معرفة من الموجودات؛ ليأخذ لك مثلاً تتعرف فيه أحوالاً للموصوف، لا تفي العبارة بتشخيصها، ومن ثمة انفتح باب التشبيه والتمثيل، ولم يستغن الفصحاء بعباراتهم الصريحة أن يقرنوها بضروب من إشارة اليد ونحوها.
وإذا كان الحاذق في صناعة التصوير، لا يمكنه أن يرسم للشيء مثالاً يحكيه لك بجميع خواصه، ويغنيك عن مشاهدته، فكذلك مؤلف الألفاظ؛ لأن التعبير بها نوع من التصوير والمحكاة.