قال المؤلف في (ص ٩٦): "وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سبباً في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعاً، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، يكفي أن يصرف همه إلى القول، فإذا هو ينساق إليه انسياقاً".
لا أرى أحداً يعتقد أن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، وإنما هي أسباب نظم الشعر تهيأت لهم، وسيّرته بألسنتهم، حتى صاغوه في كثير من المعاني المبذولة، والمخاطبات المعتادة.
ومن هذه الأسباب ما يرجع إلى سعة اللغة؛ من كثرة المترادفات، وأضراب المجاز والكنايات، ومنها ما يرجع إلى سعة الخيال، وحرية الفكر المكتسبتين من حياتهم في أوطان لا تعلوها سلطة قاهرة، أو قوانين مرهقة.
ويضاف إلى هذا: ما ثبت بطرق لا تحوم عليها ريبة، من أن العرب يكبرون الشعر، ويرفعون الشاعر إلى أسمى منزلة، وإحراز الشعر لهذه الحظوة مما يدفع الأذكياء منهم إلى التنافس في إجادة صنعه، ويدعو العامة إلى الاقتداء بهؤلاء، ولو على وجه التشبه بهم في إلقاء الكلام مقيداً بالوزن والقافية.
فليس كل العرب، ولا أكثرهم يقول الشعر الذي يغوص على حكمة، أو يأخذ في الخيال مذهباً، وليس ببعيد أن يكون كثرهم على استعداد لإيراد الكلام في صور النظم المنتهي بقافية، ولا سيما حيث تكون معرفة الطبقات بمفردات اللغة وأصول تأليفها متقاربة.