أكمل الله الدين بما أودع في الكتاب والسنّة من أصول وأحكام، وفتح للراسخين في العلم باب الاجتهاد؛ لينتزعوا أحكام الوقائع من أصولها، ويقيسوا الأمور بأشباهها، فانتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى وفي أصحابه - رضي الله عنهم - رجال درسوا الشريعة، ووقفوا على أسرارها، وعرفوا مقاصدها في الإصلاح؛ كالخلفاء الراشدين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم مما لا يسع ذكرهم هذا المقام.
حفظ هؤلاء الأعلام الشريعة من جهة الرواية، فبلَّغوها كما سمعوها، ونصحوا لها من جهة الدراية، فكانوا يتحرّون الحق إذا اجتهدوا، وكان مجلس كل واحد منهم كمدرسة يتلقى فيها الناس القرآن والحديث، ويتعلمون كيف يفصلون للحوادث أحكامًا، ويضعون للسياسة نظمًا، وينقضي عهد الصحابة حتى عمرت بلاد الإسلام برجال رفعوا لواء العلم، وكانوا المثل الكاملة للاستقامة، والألسنة الصادقة لبيان الحقائق، والعقول الراجحة لتدبير وسائل السعادة؛ كالقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وأبي
(١) محاضرة الإمام بدار جمعية "الهداية الإسلامية" في ١١ صفر ١٣٥٣. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد السادس.