وربَّ كلمة يلقيها الخطيب، فتنفذ في قلب السامع، وينتفع بها في سيرته ما دام حياً. قال الحسن: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجّاج، فقيل له: وإن كلام الحجاج ليقذك؟ فقال: نعم، سمعته على هذه الأعواد يقول: إن أمرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له، لحري أن تطول عليه حسرته.
ولشدة وقع الخطب في نفوس الملأ ترى الرئيس المستبد ينظر إلى الخطباء الأذكياء بعين عابسة، يحذر من أن يحوموا حول سيرته، ويقنعوا الناس بأن لا طاعة لمن يضطهد ولا ينصح في تدبير شؤونهم.
* أطوار الخطابة:
كان للعرب في الجاهلية خطابة أدبية، ولكنهم كانوا يقدمون الشاعر على الخطيب من جهة أن الشعر أعلق بالأذهان، وأسرع تقلبًا في البلاد، فهو أرفع صوتاً بمفاخرهم، وأكثر إذاعة لمثالب أعدائهم. وتقديم العرب للشاعر على الكاتب، داقبالهم على حفظ الشعر أكثر من إقبالهم على حفظ الخطب، كان السبب في قلة ما وصل إلينا من خطبهم في الجاهلية.
والخطب التي يمكننا أن نستخلص منها صورة الخطابة في ذلك العهد، هي هذه الخطب التي تؤثر في كتب الأدب والتاريخ؛ كخطب وفود العرب عند كسرى، ثم هذه الخطب المروية في كتب السيرة النبوية لزعماء العرب الذين يفدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مبدأ اعتناقهم للإسلام.
والنظر إلى جملة هذه الخطب يجعلنا على ثقة من أن الخطابة قبل كانت بهذه المنزلة المناسبة لأمة هي إلى البداوة أقرب منها إلى الحضارة، ولكنها كانت ذات ذكاء وحسن تصرف في فنون البيان.
وهذه الخطب تمثل الخطابة في عهد الجاهلية، سواء علينا أكانت مأثورة