قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام، وتصريف الأوامر والزواجر لا تستقل وحدها بردع الخليقة، وقيادتهم إلى سابلة العدالة، فكثير من الناس من يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع الطبيعي، وتغلبه على الوازع الشرعي؛ كردِّ شهادة العدو على عدوه، وعدم قبول شهادة الرجل لابنه أو لأبيه، وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف، أو وارث قريب؟. فلا بدَّ إذاّ من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة، وإن كره المبطلون، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالة القضاء لأبي موسى الأشعري:(وانفذ إذا تبين لك؛ فإنَه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له). وتسمّى هذه السلطة بالسلطة القضائية.
وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يتولى الحكومة على الجاني، ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية، أو استئنافها لدى غيره، وما كانوا يرون قضاءه إلا حكماً مسمطاً يتلقونه بأذن واعية، وصدر رحيب؛ لعلمهم يقينًا كعمود الصبح: أنه حكمُ الله الذي لا يقابَل بغير التسليم، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: ٦٥].