وإن تعجب، فلا عجيب لهذا؛ فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن يصير بمنزلة الطبيعي، أو أقوى داعياً، وسهَّل انقياد العرب، على ما كانوا عليه من الأنفة، وصعوبة المراس، وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملًا ومفصلًا من جهة أن الدين معدود من وجدانات القلوب، فالانقياد لأحكامه من قبيل الانقياد إلى ما يدعو إليه الوجدان، وليست الشراع الوضعية بهذه الدرجة؛ فإن الناس إنما يساقون إليها بسوط القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاء للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية من أنفسهم إلا إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل.
وإنما ورد من فصل قضائه - صلى الله عليه وسلم - قدر يسير بالنسبة إلى مدة حياته؛ لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة، والتئام العواطف القاضية بأن تكون معاملاتهم خالية من الدسائس، خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب، وانتشرت الفضيلة بين أمة، إلا اتبعوا شرعة الإنصاف من عند أنفسهم، والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة، فيخفت ضجيج الضارعين، وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهما في أجواف المحاكم حسيساً.
وضم - صلى الله عليه وسلم - إلى السلطة القضائية فيما يخص الحق المدني سلطةَ التنفيذ فيما يختص بحقوق الأمم؛ كإشهار الحرب، وإبرام الصلح، وتلافي أمر الهجوم، ولم يكن - مع يقينه باستماتة أصحابه في طاعته، وتفاني مهجهم في محبته - لينفرد عنهم بتدابير هذه السلطة، بل يطرحها على بساط المحاورة، ويجاذبهم أطرافها على وجه الاستشارة؛ عملاً بقوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: ١٥٩]. وقد يترجح بعض الآراء بوحي سماوي؛ كما نزل قوله